فى هذا المكان منذ عام، أيام حكم الإخوان العسر، كتبتُ مقالا عنوانه «طريق الآلام» أهنئ فيه إخوتى أقباط مصر المسيحيين بأحد السعف، وقارنتُ بين الطريق الوعرة التى سار فيها السيد المسيح فى القدس حاملاً صليبه استعداداً للموت النبيل، وطريق الآلام التى تسير عليها مصرُ حتى تتخلص من ثقل وطأة الإخوان. قلتُ فيه: «وأنا طفلة، فى مثل هذه الأيام الربيعية، كنا نجمع عيدان السَّعف، ونتبارى فى جدلها لنصنع أشكالاً جميلة نعلّقها فى غرفنا أو ندسّها تحت (بنورة) مكاتبنا، حتى تجفَّ، مع الفراشات الملونة التى نصطادها من حديقة المدرسة، ونُصبّرها (كم كنا قساةً فى أمر الفراشات هذا!). وحين كبرتُ بات الحصول على السعف صعباً. فقد برحتُ مدرستى الرائعة التى يقف عند بابها باعةُ السعف، وأصبح علىَّ اللجوء إلى أصدقائى المسيحيين لكى يهدونى شيئاً منه. هذا العام قررتُ ألا أعتمد على أحد، فخرجت بالأمس واشتريت باقة من سنابل القمح المصرى الفاتن، علّقتها على باب شقتى. ونحن صغار، أيام الزمن الجميل، لم يكن يعنينا إن كان هذا عيدى أم عيدك! لم تدخل معاجمنا كلماتُ الفُرقة: مسلم - مسيحى. كنّا نفرح معاً ونلعب معاً ونحتفل بأعيادنا معاً؛ لأن مصرَ الطيبةَ تجمعنا معاً، وقبل هذا تجمعنا الإنسانيةُ الواسعة. العقائدُ شأنُ الله، وكنّا نتأدبُ مع الله ولا نأخذ مكانه فنُدين كيلا نُدان. وكنّا ندرك أننا جميعاً نعبد إلهاً واحداً؛ لأن لهذا الكون ربّاً واحداً، كلٌّ يراه عبر منظوره، ففيمَ الخلاف؟! أكتبُ إليكم يوم أحد السعف؛ حيث تمتلئ شوارع مصر بسنابل القمح وجريد النخيل. ندعو اللهَ أن نصطفَّ جميعاً، نحن المصريين، قلباً واحداً وحُلماً واحداً ويداً واحدة تحمل أكاليلَ السَّعف لنستقبل بها مصرَ الحرةَ الكريمةَ حين تنبعث وتنهضُ من سقطتها، كما اصطفَّ أهالى القدس الشريف، حاملين أغصان الزيتون والسعف لاستقبال السيد المسيح، رسول السلام والمحبة، عليه السلام، حين دخل أورشليم القديمة منتصراً مكللاً بأوراق الغار. أصدقاؤنا المسيحيون صائمون منذ خمسة وخمسين يوماً، يرفعون أياديهم إلى السماء ضارعين بالدعاء لكى يحمى اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ، كما ندعو لها فى صلواتنا وصيامنا وتهجدنا. يجمعنا حبُّ مصرَ، وتجمعنا طريقُ الآلام القاسية التى تمشى عليها مصرُ الآن فى وهنٍ ووجع، لكن مرفوعة الرأس، تماماً كما سار السيد المسيح، عليه السلام، تلك الطريق الوعرة من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، فى مثل هذا الأسبوع من ألفى عام، حاملاً صليبَه الخشبىَّ الهائل، وحاملاً آلامه وجراحه ودماءه الطاهرة ورجاءه فى خلاص البشر من شرور العالم، واضعاً إكليلَ الشوك على جبينه الوضىء النقىّ من الدنس، يقطرُ منه الدمُ الطاهر. وحين ظمِأ، قدَّم له جندُ اليهود والرومان كأس الخلِّ كى تخفَّ آلامه قليلاً، لكنه رفض أن يحتسيه كى يتجرّع الألمَ إلى منتهاه، لقاء قوله الحقَّ فى وجه سلطان جائر. ثم قام بتعزية المريمات وصبايا أورشليم المنتحبات عليه، طالباً إليهن أن يبكين على أنفسهن لا عليه، مثلما أكادُ أسمعُ مصرَ فى طريق آلامها تقولُ لبناتها: (يا بنات طِيبة، لا تبكينَ علىَّ، بل ابكين على أنفسكن وأولادكنّ). بعد أسبوع الآلام هذا، سيحتفل إخوتى مسيحيو مصر بعيد القيامة، وسوف ندعو الله معهم أن يحتفل المصريون والعالم أجمع، بقيامة مصر العظيمة الخالدة من مواتها الراهن. كل سنة وأقباط مصر مسلمين ومسيحيين بخير وفرح وأمان ومحبة، ومصر فى حرية وتحضّر». اليومَ، أجدد تهنئة إخوتى المسيحيين بعيدهم، وأرجو أن تكون مصرُ قد تجاوزت طريق الآلام لتبدأ خُطاها الطيبة على طريق الفرح والأمن والاستقرار. كل سنة وأنتِ يا مصرُ، مصرُ المباركة بين الأمم.