مبارك ذهب إلى غير رجعة، هذا ما لا يجادل فيه أحد، لكن ما يجادل فيه كثيرون ما إذا كان نظامه قد انسحب معه من المشهد. والنظام هنا لا يقصد به العائلة ولا الحزب الوطنى بل يقصد به ترتيبات بينها وأذرع إعلامية ومالية ووجوه من النخبة السياسية وعلاقات تضامن بعضها رسمى وبعضها غير رسمى تشكل معا النظام السياسى الذى حكم مصر ثلاثة عقود. وخلال المراحل التى تعقب الثورات دائما يكون هناك تبادل اتهامات بالانتماء للنظام المنهار وسجالات إعلامية حول وجوب الخضوع للمساءلة من عدمه بحق أشخاص شغلوا مناصب أو تبنوا خطاب النظام والدفاع عن سياساته. وفى المجتمعات الديمقراطية -غالبا- يكون الواقف تحت لافتة منحازا إلى موقف ما أو حتى لديه رهانه السياسى الشخصى الذى قد يكون مجرد تلاقى مصالح. وعندما تنتهى لعبة سياسية بوسيلة ديمقراطية فإن الخاسر يعترف بوضوح أنه خاسر ويغادر المشهد دون تبجح أو كذب أو تبرؤ وقح من المسئولية الأخلاقية عن اختياره، وفى بعض الحالات يستقيل المسئول دون أن يخسر معركة انتخابية، فقط لشعوره بالتقصير -وفى اليابان قد يصل الأمر إلى حد الانتحار بسبب التقصير- أما فى مجتمعات «التبلد الخلقى» فيظل فلول المهزومين يشاغبون مؤكدين تارة أن «الكل فلول» وتارة أن «الكل غير مذنب»! والمقولة الأولى «الكل فلول» يقصد منها أن كل من عاش فى عهد مبارك -حتى لو قضى سنوات حكم الديكتاتور معارضا منفيا أو معتقلا- هو من الفلول ويكفى للرد على هذه الفرية المنحطة، هذه الأكذوبة الرخيصة، أن نسأل مروجيها: هل يمكن أن نساوى بين محمد صلى الله عليه وسلم وعمه أبى لهب لأنهما عاشا فى عصر واحد فى مكان واحد! وأما المقولة الثانية فدلالاتها أسوأ ومنها أن ما حدث كان حتميا ومن دلالاتها أيضا أننا نستحق ما ذقناه فى عهد مبارك يستوى فى ذلك الضحية والجلاد، ومن دلالاته فضلا عن ذلك أن الكل ملوث، وتلك حيلة خبيثة يلجأ إليها بعض الملوثين عند اليأس حيث يصرخ أحدهم: «كلنا فى الهوا سوا»! والمسئول -كما هى دلالة اللفظ- يجب أن يكون موضع مساءلة، هكذا يكون المنطق المتسق مع الفطرة والمنطق ومقتضيات العدل، ولكن فلول نظام مبارك يرتكبون جريمة مزدوجة، فينكرون أن الصواب والخطأ لا يستويان، وهما فعلا لا يستويان، ثم يحولون المطالبة بمساءلتهم إلى جريمة سياسية، وهذا هو بعينه ما تسميه العلوم الإنسانية «تلوث البيئة الأخلاقية»، وبعض ما يقال دفاعا عن رموز نظام مبارك تلويث متعمد للبيئة الأخلاقية المصرية لا يختلف عن التسميم الحقيقى لمصادر مياه الشرب. وغدا يكون لدينا جيل مصاب بالمزيد من التبلد الأخلاقى بعد أن رأى بعينيه أن من أساء يحصل على مردود مادى ومعنوى أفضل بكثير ممن أحسن وأن المجتمع يعطيه من التكريم والتقدير ما يتناسب طرديا مع حجم جريمته!! وبعد نهاية النظام النازى فى الحرب العالمية الثانية وإحالة رموزه إلى محاكمات نورمبرج الشهيرة كان قادة النظام النازى يتحدثون باللهجة المتبجحة نفسها التى ينسب لوزير الداخلية الحالى أنه تحدث بها عن اللواء حبيب العادلى وزير الداخلية الأسوأ فى عهد مبارك، بوصفه رجل أمن من طراز رفيع. وحده وزير الصناعات العسكرية فى عهد هتلر سبير اعترف بكل ما اتهم به النظام النازى، واعترف أنه من «الفلول»! أما فلولنا الأشاوس فيوسعوننا تأنيبا وتقريعا مؤكدين أن ما نالوه فى عهد مبارك هو مستحق وأن إقصاءهم عنه هو جرم فى حق القانون والديمقراطية وانتهاك للعدالة، وكل منهم يوهم نفسه على طريقة قارون -كما جاء فى القرآن الكريم- بأنه حصل على موقعه الإعلامى أو السياسى أو الأمنى عن استحقاق «إنما أوتيته على علم». ومن أراد أن يتأكد من أن المشكلة هى أولا وأخيرا «تبلد فى الحس الخلقى» فليقارن بين الاستقالات حتى فى الثورتين اليمنية والليبية وبين البرود السياسى المخيف الذى تصرفت به نخبة نظام مبارك السياسية والاقتصادية، وبشكل أسوأ نخبته الإعلامية.. وأقترح على الرئيس مرسى إنشاء وسام جديد يطلق عليه «وسام الفلول من الطبقة الأولى»!!!