توفت أمي بشكل مفاجئ، ووجدتني وحدي ومعي أبي نواجه الحياة بشتى صورها، في البداية كان الأمر قاسيا ومعقدا ولكن بمرور الأيام بدأت أتعايش مع الحياة، وأحاول جاهدة أن أعوض أبي عن فقدانها فتعلّق بي تعلقا شديدا. كنت أجلس معه بالساعات، وأروي له كل شيء عن حياتي، وأعدّ له وجباته الخفيفة وأشاركه أموره تماما كما كانت تفعل أمي، ومرت الأيام ونحن لا ننفصل أبدا، حتى تقدّم لخطبتي شاب مهذب أحببته وأعجب به أبي رغم صعوبة الموقف عليه، ودون أي مقدمات تم زواجي، ووجدتني أبتعد عن أبي رغما عني، وإن كان يسكن في المنزل المقابل لي، وكنت أشعر بحزن أبي واكتئابه وحاولت أن أحل الموقف، ولكنه كان يزداد تعقيدا، وخاصة بعد حملي وانشغالي في كافة أمور الحياة. بعد الولادة، شاءت الأقدار أن يسافر زوجي سفريات متعددة يتطلبها عمله، ووجدتها فرصة كي تعود المياه لمجاريها بيني وبين "الحاج" الذي كثرت متطلباته وزادت التعقيدات في حياته، لتقدّمه في العمر وتمسكه الزائد بي، وكنت أتسامر معه كل يوم في المواعيد التي تناسبه، فيداعب الصغير ويعلمه بطريقته ونشترك في وجبات الطعام المتفاوتة، مع مراعاة ظروفه الصحية طوال الوقت. كنت أتفادى الانشغال عنه بالمكالمات الهاتفية أو الخروجات المتنوعة مع الصديقات، وكنت أستجيب لتعليقاته المتعددة على المنزل، وطريقتي في الحياة وترتيب أرفف المطبخ وكيفية وضع الأثاث، ومرت الأيام وزوجي يأتي في اجازات متفرٌقة أو أسافر إليه فيما ندر، وكبر ابني وانخرط في التعليم بكل مساوئه ومشاكله، وأبي في حياتي لا ينفصل عني أو عن معارفي وأصدقائي، بل كان عاملا مشتركا في كل هذه الأمور. استمرت الأمور مُرضية للجميع، حتى عاد زوجي ووجدتني لأول مرة في موقف عصيب، أبي بمتطلباته وأكله الصحي وجلسات السمر التي يحدد أوقاتها، وآراءه التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها في حياتي، ونومه المبكر واستيقاظه مع أول خيوط الصباح، وزوجي بمتطلباته ورغباته في مأكولات متنوعة "ومحمر ومشمر ومشوي ومقلي"، وأراءه التي كالسيف على الرقبة وسهره لأولى ساعات الصباح، واستيقاظه المتأخر لكونه في عمل حرّ لا يتطلّب أوقات محددة، وأخيرا ابني الذي كبر وأصبحت له هو الآخر متطلبات لا تنتهي، وجبات سريعة من برجر وهوت دوج وشاورما ومثلجات وعصائر وحلوى وأيس كريم، ونادي ومذاكرة وحدوتة قبل النوم وموال لا نهاية له. وجدتني بصحبة الثلاثة لا أنام، أسهر للصباح مع هذا وأستيقظ من النجمة مع الصغير، وأعدو نحو منزل الحاج بعد نزوله إلى المدرسة لأجلس بصحبته كما اعتدنا، وأعد محمر ومشمر مع زوجي، وأشارك الحاج في الخضار السوتيه وشرائح اللحم المسلوق، ولا مانع من وجبات سريعة مع ابني الذي كبر وبدأت الغيرة تأكل قلبه. وأصبحت بمرور الأيام كالساقية الدائرة بلا توقف والماكينة التي لا يرحمها أحد، والثلاثة لا يفكرون إلا في كيفية الاستحواذ عليّ حتى وقعت "من طولي" ذات يوم، ونظرت حولي فوجدت الثلاثة فوق رأسي، الحاج مصرّ على الأعشاب والوصفات الطبيعية، وزوجي مصمم على إحضار الطبيب والمستشفى إن لزم الأمر، وابني يجثم فوق صدري ملتصقا بي من شدة الحب ويقول أن حضنه يكفيني، واحتدم الخلاف بين الثلاثة فلم أستطع تحمل المزيد فنهضت متظاهرة بالقوة لأنهي الخلاف الناشب بينهم. وعدت أمارس عملي من جديد وأحسست بأنهم استكانوا وارتاحوا نفسيا للفكرة، وذهبت للمطبخ أجرّ قدماي جرا، والطلبات تلاحقني، كوب ينسون للحاج وكابتشينو ل"سونة" زوجي، وشاي بلبن لفلذة كبدي الصغير والرجل الثالث في حياتي.