القراءة عن الصعيد في الكتب شيء، والتعرف على حاله في الواقع شيء آخر.. هكذا هو الحال مع أرض الجنوب الغارقة في مياه السيول، وأهلها الذين يعانون من غياب الأمن تارة، وتكرار الحوادث الطائفية تارةً أخرى. واقع قاس، فقير، لا تصل إليه كاميرات الإعلام ولا تتناوله الكتب إلا فيما ندر، ومن بعيد. كتب قليلة جدا تلك التي تصدر عن صعيد مصر، فمثلا "مذكرات طبيب في صعيد مصر الجواني" للدكتور نبيل فاروق، كتبت من القاهرة، والدراسات المنشورة عن أرض "طيبة" معظمها يتعلق بالماضي، ك"أشكال العديد في صعيد مصر"، للدكتور درويش الأسيوطي، الصادر عام 2006، و"الناس في صعيد مصر العادات والتقاليد". هديل غنيم، باحثة مصرية تعيش في أمريكا، قررت كسر العزلة، لكن محاولتها جاءت من بعيد أيضا، من بلاد العم سام، حيث أصدرت كتابها "سنة في قنا" الذي تروي فيه على لسان طفل صغير، كيف تبدو الحياة في صعيد مصر.. "بدأت قصة الكتاب عبر محادثة مع الصديق إيهاب عبده مؤسس جمعية نهضة المحروسة ومؤسسة أنا مصري، والمهتم بقضية التسامح الديني والتنوع الثقافي في مصر، ولأني كتبت للأطفال من قبل، تطوعت معه للتفكير في إصدر سلسلة كتب مناسبة للأطفال، توعيهم بتنوع التراث الثقافي المصري". العديد من الأفكار جالت بخاطر هديل، هل تتحدث عن سيرة الشهور القبطية، أم الأمثال العامية الظريفة المرتبطة بها، أم بارتباط التقويم المصري القديم بالسنة الزراعية، لكن ثمة قضية أعمق كانت على الأبواب.. "هناك انقسام آخر نعاني منه في مصر بجانب الانقسام الطائفي، هو الانقسام الريفي الحضري، لذلك اخترت أن أكتب قصة حياة طفل يستكشف الحياة في صعيد مصر عبر عام كامل يقضيه في محافظة قنا، والقصة هنا تقوم على الخيال الذي يقود الأحداث". تجربة هديل الغريبة في الكتابة عن مكان تغرقه السيول، لم تزره من قبل، جعلها تبذل جهدا مضاعفا، سواء في قراءة كتب عن الصعيد أو في التواصل مع شخصيات تفيدها في كتابها، ليصدر الكتاب عن "دار البلسم" قبل أن يتحول الصعيد إلى كارثة بفعل سيول وأمطار كشفت انهيار البنية التحتية. "الصعيد اللي بيتم الحديث عنه الآن في الكتب والأعمال الدرامية هو صعيد 50 عاما مضت، الجو تغير، والمشاكل لم تعد هي الثأر وظلم المرأة فقط" بحسب خلف جابر، من جماعة صعاليك الصعيد الأدبية، مشيرا إلى أن الكثير من أمور الصعيد لا يعلمها أحد، بسبب وعورة كل شيء هناك.. "الناس بتشيل هم إنها تروح، بتاخد أقصر طريق وهو البحث على الإنترنت والرجوع للمراجع، في حين أن الواقع يتغير بسرعة كبيرة جدا".