كنا فى ندوة نظمها كل من معهد التنوع الإعلامى، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، أمس الأول الأربعاء، تحت عنوان «مهنية الإعلام بعد 30 يونيو»؛ وهى الندوة التى حضرها عدد من أساتذة الإعلام وخبرائه وممارسيه، وحظيت باهتمام صحفى وإعلامى كبير. وقد أمكننى استخلاص المؤشرات التالية من خلال مشاركتى فى تلك الندوة: أولاً: إن الجميع ناقم على الإعلام، أو يبدى النقمة عليه، ويحمله المسئولية عن حالة الارتباك والهشاشة التى تعانيها مصر راهناً، بل ويتهمه أيضاً بأنه السبب فى الاستقطاب الحاد الذى يسيطر علينا، إضافة إلى اعتباره المتسبب الأول فى الاحتقان المتزايد والتراجع المطرد الذى نعانيه جميعاً. ثانياً: يعتقد قطاع كبير من الممارسين والمهتمين، بين الذين حضروا الندوة، أن مشكلة الإعلام فى مصر ترجع إلى «عدم التزام الصحفيين والإعلاميين بالمعايير المهنية» فقط، ويرى هؤلاء، نتيجة لذلك، أن حل تلك الإشكالية سهل وميسور، ويمكن تلخيصه فى ثلاث كلمات فقط؛ هى: «ميثاق شرف إعلامى». ثالثاً: حينما يسأل صحفيون وإعلاميون بعض المتحدثين فى مثل تلك الندوات أسئلة بخصوص قضايا إعلامية راهنة، فإنهم، فى معظم الأحيان، لا يبحثون عن رأى، أو تحليل، فى محاولة لنقد الممارسات الإعلامية وتقييمها، بقدر ما يبحثون عن موقف الذين يوجهون له السؤال. وهم يفضلون بطبيعة الحال أن يكون هذا الموقف حاداً ومحدداً، ويا حبذا لو كان صارخاً وساخراً. رابعاً: إن منطلقات كثيرين من المتابعين والمهتمين بالقضايا الإعلامية ليست مهنية بالأساس، ولكنها منطلقات سياسية، وبتعبير أدق «أيديولوجية»؛ لذلك، فهم لا يبحثون عن «المعرفة» بالمشكلة وأبعادها وإمكانيات الحل وبدائله، وإنما يريدون «رأياً مهنياً» يمكن أن يعزز مواقفهم السياسية، وبالتالى ينتصر لأيديولوجيتهم. رابعاً: هناك رغبة جامحة تظهر لدى قطاعات كبيرة بين الإعلاميين والمهتمين، لاستبعاد قيم صحفية أساسية من الأطر المنظمة لممارسة المهنة؛ مثل «الحياد»، و«الموضوعية»، و«التوازن»، باعتبارها «خرافات» من وجهة نظرهم، ويجب ألا تكون محل التزام من قبل الجماعة الصحفية والإعلامية. خامساً: لا يجتهد قطاع كبير من الصحفيين والإعلاميين فى محاولة تغطية الأحداث والوقائع التى تصب فى اهتمامات الجمهور بشكل عميق، يركز على محاولة فهم المعانى والرؤى ووجهات النظر المطروحة، ويفضل هذا القطاع، الآخذ فى الاتساع، أن يركز على التناقضات الصارخة، أو المواقف الحادة، أو الأحكام القاطعة، أو «الإيفيهات» الساخرة، أو التجريح والنقد المتجاوز فى حق الآخرين. سادساً: إن هناك رغبة واضحة لدى كثيرين من المتابعين والمهتمين والمعنيين بالشأن الإعلامى فى استمرار أزمة الإعلام، واستمرار تحميله المسئولية عن بقية الأزمات المجتمعية، واستمرار الشكوى من الأداء الإعلامى، دون وجود رغبة فى الوصول إلى حل، أو تبنى حل، أو الاستماع إلى من يطرح حلولاً. إن العناصر الستة السابقة تطرح تحديات خطيرة على الواقع الإعلامى والسياسى والمجتمعى فى مصر، ولن يكون هناك حل، لمشكلات الإعلام، التى تمثل جزءاً من مشكلات الأداء الوطنى العام من دون تجاوزها. لا يجب الاستسلام لفكرة أن «الإعلام هو المخطئ الوحيد»، لأنه ببساطة يخطئ كما يخطئ الآخرون، ولا يجب تصديق أن الإعلام وحده هو سبب حالة الارتباك والخلل التى نعيشها، لأن تلك الحالة نتاج لأخطاء مركبة من مؤسسات الدولة وأفرادها، ولا أعتقد أن بيننا من يصدق أن إصلاح الإعلام وتطويره يمكن أن يحل مشاكلنا جميعها دفعة واحدة وفى شتى المجالات. ومن جانب آخر، علينا ألا نهون من حجم مشكلة الإعلام، ونعتبر أن حلها سيتحقق بمجرد إصدار «ميثاق شرف»، لأن مثل هذا الميثاق ليس سوى التزام طوعى ببعض المعايير الأخلاقية والمهنية التى يرتضيها الإعلاميون لأنفسهم، كما أن هذا الميثاق لا يستطيع التأثير فى الحالة الإعلامية إلا من خلال وجوده ضمن نظام إعلامى يتسم بالتكامل والمرونة والكفاءة. وفيما يتعلق بتحليل أنماط الأداء الإعلامى المثيرة للجدل، يجدر بنا أن نهتم بتقصى الممارسات نفسها، وقياس مدى اتساقها مع المعايير المهنية أو انتهاكها لها، وليس مجرد البحث عن «موقف» ما يؤيد ما نؤيده، أو يعارض ما نعارضه. لا يجدر بنا أن نخضع الممارسات الإعلامية لرؤيتنا الأيديولوجية؛ فنسب باسم يوسف إذا هاجم مرسى الذى نؤيده، ونمدحه إذا انتقد السيسى الذى نعارضه، أو نؤيد الحكومة لأنها أغلقت القنوات المسماة «دينية» التى تعمل ضد مصلحتنا، ونعارض كل من ينتقد الأداء المزرى لبعض القنوات الرائجة راهناً، لأنها تدافع عن توجهاتنا. وأخيراً، علينا أن نعرف أن الحياد ليس خرافة، خصوصاً فى وسائل الإعلام المملوكة للدولة، حيث يجب أن يسعى الصحفى والإعلامى للوقوف على مسافة واحدة من أطراف الحدث الذى يغطيه، حتى يستطيع أن ينقل للجمهور الأخبار التى تهمه، بأقصى درجة ممكنة من التوازن والدقة، وأن يمنح كافة الأطراف المنخرطة فيها الفرص العادلة للتعبير عن آرائهم. إن قيام أفراد عديدين من عائلة ما بالسرقة لا يعنى أن يسرق الآخرون. كما أن تفشى عدم الالتزام بالقانون بين أفراد مجتمع ما ليس مسوغاً لهدم القانون وعدم الاعتداد به. الحياد ليس خرافة، وإن كان لا يمكن تحقيقه بالكامل. والحياد قيمة ترتجى فى الممارسة الإعلامية، وتستحق العمل من أجلها، ويكون الحساب بخصوصها متعلقاً بمدى قدرة الإعلامى أو الوسيلة على الاقتراب منها أو مدى الابتعاد عنه. وأخيراً؛ فإن مشكلة الإعلام فى مصر ليست بلا حل. إن حل مشكلة الإعلام فى مصر يكمن فى ضرورة إعادة بناء النظام الإعلامى، عبر تشكيل مفوضية للإعلام، تقوم باقتراح قوانين وتشريعات جديدة، لتلبية الاستحقاقات الدستورية، وتبنى توافقاً على تلك التشريعات، لتنقل إدارة الإعلام المصرى من الهيئات البيروقراطية والسياسية والأمنية إلى هيئات فنية مستقلة على غرار ما يحدث فى الدول المتقدمة والأكثر تنظيماً.