فى مولد «سيدى» الاحتقار و«ستنا» السخرية نقيم الاحتفالات بالأيام والليالى، نذبح الأمل ونضحى بالثقة وكأننا لا نريد أى دور على مسرح الحياة سوى إقامة موالد السخرية، التى تطورت إلى حد الاحتقار والتشكيك فى أى مقدرة على التفوق والنجاة والنجاح، أنا أشك إذن أنا مصرى! نثور طلباً للديمقراطية ثم نشكك فى قدرتنا على فهمها وتحقيقها، نثور لزيادة الإنتاج ونشكك فى قدرتنا عليه، وليس لدينا رغبة أو إرادة عمل تخرجنا من نفق اقتصادى معتم، ولدينا مقدرة متفوقة فى التشكيك فى أى شخصية يلتف الناس حولها والتشكيك فى كل المؤسسات وكأننا نعيش بمشاعر الضآلة -عرض مستمر- ويكفينا سرعة البديهة وخفة الدم والسخرية التى أصبحت كرباجاً نجلد به أنفسنا دون سبب وبلا مبرر. مصر تعيش الآن فى أجواء تشكيكية فاخرة بتشكيلة متميزة من «الألش» تزرع اليأس والإحباط وتطرد التفاؤل والأمل، وهذه الأجواء كفيلة بهدم أى أمل فى الإصلاح والتقدم. التشكيك لم يترك أحداً و«الألش» اللاذع «كاس وداير» على الجميع من الفيس بوك إلى المقاهى والنوادى، كله يعيش بثورة الشك وكأنه لا يكفينا جبهات الحروب المتعددة والمفتوحة علينا من حيث ندرى ومن حيث لا ندرى، فقررنا أن تكون هناك حرب «بيدى لا بيد عدو». «الألش» والتشكيك وانعدام الثقة فى كل شىء والإحساس بعدم القدرة على فعل شىء واليأس والاعتقاد فى العجز والإحساس بالضآلة - كلها أجواء وأسلحة كفيلة بتدمير أى مجتمع، إننا ننتج السخرية ونبيعها لأنفسنا أسلحة فاسدة ترتد علينا وتنفجر فينا. السخرية كانت سلاح شعب ضد الحكام لدرجة أن «عبدالناصر» كان لديه جهاز مهمته جمع النكات وتحليلها. أما الآن فأصبحت الحياة نكتة كبيرة نتداولها بسخرية وتشكيك، ولم تعد كاشفة للعيوب ومواطن الخلل ولكنها أصبحت مقصودة لنزع الثقة من الجميع والتشكيك فى كل شىء. تحولت السخرية من نقد بنَّاء إلى جَلْد الذات «عمال على بطال»، وجلد الذات فى المجتمعات أخطر الأمراض النفسية التى من شأنها تحطيم المجتمع. جريدة «هفنجتون بوست» الأمريكية قالت فى تقرير منشور لها: إن المصريين الذين لم يهتموا بمحاولة الإعلام الغربى التشكيك فى سياسة بلادهم، هم أنفسهم الذين أدمنوا تقطيع بعضهم وساستهم وسياسات بلادهم بالسخرية القاتلة. وحالة «الألش» الساخر والسائد الآن فى مصر مع التشكيك المستمر قاسم مشترك لترسيخ مشاعر اليأس والإحباط ورسالة لليائسة قلوبهم الذين يقولون إن هذا الوطن لن ينصلح حاله وإننا جربنا الثورة فلم تنفع وجربنا السياسة فلم تشفع، إذن إنه اليأس. واليأس باليأس يذكر، فلنبقَ فى حالة عراك لا تتوقف، ولينشغل كل منا بهزيمة الآخر كلامياً وب«التأليش» عليه، ولنفقد الثقة فى الآخرين وفى كل شىء، ونتوقف عن العمل، وندمن الاعتصامات، ونتحدث بالباطل عن المستقبل، ونرسخ ثورة الشك التى انتابتنا جميعاً، والنتيجة أن كلاً منا أصبح حراً فى أن يضع الأمر فى نصابه وفق منطقه. الجميع أصبح على حق ويرى الجميع على باطل! فلنعمل جميعاً ونبدع فى استمرار حالة الاكتئاب العام ونحرض عليه. فلماذا اختار بعضنا اليأس وانحاز إليه وصدَّره للآخرين ونسى الأمل متعمداً وتفرغ للندب ولطم الخد و«الألش» والتحقير ليواكب موجة السخرية، بدلاً من المقاومة والفاعلية والمساهمة فى العمل نحو غد أفضل؟ وبدلاً من إهدار الطاقة فى «الألش» فلنوجه صراع الاختلاف الدائر فى المجتمع إلى وجهته الصحيحة، ليصبح صراعاً ديالكتياً خلاقاً بدلاً من المساهمة فى الحالة القائمة التى تشبه حرباً نفسية أهلية. ولا بد أن ندرك أننا نستخدم ضد أنفسنا أشد أنواع الأسلحة المعنوية فتكاً دون أن ندرى! فمتى ندرى؟ ازرع أملاً تحصد خيراً.. ازرع يأساً تحصد خراباً.