زيارة وحيدة قمت بها منذ عام ونصف العام إلى إسطنبول كانت كافية لأقع فى حب هذه المدينة الرائعة.. استثمرت كل ساعة لتحقيق حلم قديم بالدخول إلى متحف آيا صوفيا والمسجد الأزرق وقصر الباب العالى والتجول فى بازاراتها الشهيرة والتنقل بين شطريها الأوروبى والآسيوى عبر جسر البوسفور.. لذلك شعرت بالأسف حين اقتربت الطائرة من مطار أتاتورك الأسبوع الماضى لعدم استطاعتى البقاء ولو ليوم واحد فى إسطنبول، أو حتى شرب فنجان من القهوة التركية قرب ساحة تقسيم! سارعت لألحق بطائرة أخرى أقلتنى إلى العاصمة أنقرة لإجراء حوار مع كمال كيليتشدار أوغلو زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهورى. بين السماء والأرض رحت أستعيد صورة الخط البيانى للعلاقات التركية المصرية الذى وصل للقمة قبل عدة سنوات حين بدت فى التشكيل ملامحُ محورٍ مصرى تركى سعودى، إلى أن بلغ القاع حين قررت القاهرة طرد سفير أنقرة فى شهر نوفمبر الماضى، بسبب معارضة رئيس الوزراء التركى أردوغان لثورة 30 يونيو وتبنيه موقفاً داعماً لجماعة الإخوان.. تساءلت يومها: هل تعجل المصريون فى هذا القرار؟! فى الحقيقة لم أكن راغباً كغيرى فى وصول العلاقات بين البلدين إلى هذه النقطة، غير أن الواقع كان يبرهن على نفاد صبر الحكومة المصرية، وعلى أنها لم تكن وحيدة فى استيائها من أردوغان، الذى رفع منذ سنوات شعار تصفير المشاكل مع دول الجوار، أى جعلها تساوى صفراً، ليجد نفسه اليوم أمام (صفر أصدقاء) باستثناء تحالفه مع غنوشى تونس وأمير قطر، وكلاهما لا يتمتعان بثقل سياسى مقارنة مع قادة مصر والسعودية وسوريا! بفضل خطابات شعبوية ومواقف كارتونية داعب بها المشاعر الدينية حقق الزعيم التركى شعبية فى العالم العربى، لكنه سرعان ما فقدها نتيجة تخبط سياسته الإقليمية، وانحيازه الفج لجماعة راهن عليها لبناء خلافة جديدة وإعادة ما فقده أسلافه من السلاطين العثمانيين! حين وصلت مقر حزب الشعب الجمهورى فى أنقرة فوجئت بضخامة المبنى وإجراءات الأمن فى الداخل والخارج.. يحتفظ أنصار مصطفى كمال أتاتورك بأبهة السلطة التى رافقتهم منذ إعلان الجمهورية عام 1923. من إحدى النوافذ شاهدت مجمعاً ضخما فى طور الإنشاء.. قال لى مرافقى التركى: إنه سراى جديد للحكومة الأردوغانية، هنا على الأقل أعرف أين يذهب جزء من الضرائب التى أدفعها، أما الجزء الآخر فلا علم لدىّ إلى أى جيب يذهب! كان يلمح إلى فضائح الفساد الذى ينخر فى عظام حكومة يدعى رئيسها أنه يمثل المشروع الإسلامى! قبل بدء حوارى مع زعيم الحزب كانت وسائل الإعلام مشغولة بتحليل تصريحات أردوغان التى أعلن من خلالها عدم اعترافه بالسيسى رئيساً حتى لو نجح فى الانتخابات الرئاسية! فى المقابل بدا زعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو مهذباً ومرتب الأفكار وواضح الرؤية.. كان يتحدث كرجل دولة يزن كلماته، ويعرف قدر مصر وأهمية العلاقات معها.. شعرت بخجله من مواقف رئيس حكومته. قال لى إنه حرص على إرسال نائب رئيس حزب الشعب الجمهورى إلى القاهرة بعد 30 يونيو للتعرف عن قرب على ما جرى من تطورات. كان يتحدث بلغة مختلفة عن تلك التى يستخدمها أردوغان، وكأنه يعبر عن تركيا أخرى توارت وسط الضجيج الأردوغانى.. تركيا ليست حزب العدالة والتنمية فقط، وليست أردوغان وحده! قالها الرجل وتفرع حديثه إلى ممارسات الحكومة لخنق حرية التعبير، فضلاً عن قانون آخر يبيح للأجهزة الأمنية التنصت على المواطنين بلا قيود! شرح لى كيليتشدار أوغلو حالة السخط فى صفوف رجال الشرطة والقضاء بسبب الضغوط التى تمارسها عليهم حكومة العدالة والتنمية.. لكنه أكد لى بثقة أن صفحة أردوغان ستُطوى عاجلاً أو آجلاً! فى اليوم التالى، وبينما كنت أغادر أنقرة عائداً إلى القاهرة، شاهدت صور استقبال أردوغان لضيفه أمير قطر فى إسطنبول.. قلت لنفسى: اللهم اجعله خيراً!