البرودة تجتاح كل شىء.. لم تكن برودة عادية.. كانت موجة من الصقيع جمدت كل شىء.. البشر.. الورود.. الشمس.. الأنهار.. تجمدت الابتسامات والتجهمات وتعبيرات الوجوه، لم يعد هناك سوى نظرات العيون تدور فى المكان لتفهم ماذا يحدث.. ما الذى حرم الوجوه حتى من النطق بألمها وبردها؟ الموقف أصعب من أن يحله بشر، فالكل قد تجمّد.. لا أحد يستطيع أن ينقذ نفسه أو ينقذ الآخرين. أعلم أن العقل البشرى دوماً يخزى المستحيل، ولكن ما العمل إذا كان الصقيع قد وصل إلى تلافيف المخ؟ الأفكار تجلس القرفصاء تتشبث بغشاء العقل كى تحتمى من البرد الذى ينهش أوصالها. يُشَل التفكير. من رحمة الله أن الإنسان له عقل وقلب، فإذا عجز العقل شعر القلب. لكن بماذا يشعر القلب بعد أن انقطعت صلته بكل الأعضاء؟ ماذا يعطى القلب ويضخ وقد أصبح على فيض الكريم؟ فالسيولة التى بين أُذينَيه جُمِدت، والرخاوة والحنان فيه تصلبا، ماذا يقول لغيره من أعضاء من نصح ومواساة وملاطفة وتوبيخ بعد أن انقطعت عنه حكاياتهم؟ كيف يواسيهم وهو أيضاً يقاسى مرارة الصقيع؟ لا أعلم لماذا لم تتجمد مُقَلُ العيون فى ذلك الوقت؟ ما حكمة الله فى ذلك؟ هل لتبقى الصلة الوحيدة بينهم وبين الحياة ليبقى حق المعرفة فى غرفة الإنعاش، أم أنه نوع من الابتلاء أو العقاب وتكفير الذنوب؟ ألم يكن هذا هو أنسب وقت لإطباق الجفون على الحقيقة؟ حتى تلك الرحمة يا ربى منعتها عنهم؟ ربى إنى لا أسألك رد القضاء ولكنى أسألك اللطف فيه. ما المنظر الذى يدعو إلى إبقاء العيون مفتوحة؟ منظر الألواح بعد أن قبضت ما بها من أرواح؟ منظر الورود؟ لم يكن للورود أن تبرح أماكنها، ولكن كان النسيم يهوّن عليها إعاقتها.. فحين يرفع أوراقها كانت تطير بخيالها، كانت تجرى مع الرياح وتودع فى الربيع صغارها بقطرات الندى، آن الأوان أن تموت معهم، فلنحىَ سوياً أو نمُت سوياً، فكيف أرحل وأترككم بلا مأوى ولا عائل؟ وكيف ترحلون وتتركوننى أذبل بحسرتى؟ منظر الأنهار؟ كان النهر يزهو بعنفوانه، لا يبالى شيئاً، يفتت هذا الصخر ويلقى بتلك الحصى إلى البحر ليبتلعها. قد يكون قلبه أبيض مثل أى شاب أهوج يستبيح لنفسه المنكرات، إلا أن ضميره لم يمت بعد، لا يأتى الحرام بخسّة، فما زال فى قلبه منطقة بيضاء.. ما زال بينه وبين الله عمار.. تستطيع أن تقول إنها «شقاوة شباب».. وجاء الهِرَم فجأة، بل جاء الموت فجأة. كل شىء توقف.. ما هذا؟ لماذا لم يتجمد الزَبَد هو الآخر؟ أكذلك يكتمل عقاب الله؟ لله الكمال وحده، فهو لا يأتى شيئاً ناقصاً أبداً.. بيده نواميس الكون يسريها على ما يشاء من خلقه ويرفعها عما يشاء.. لا حل لتلك المصيبة، فالكل مكتوفو الأيدى.. والليل والريح لا يتركان لأحد الفرصة للتشبث بالحياة.. لا يحلها إلا الله.. ولكن الله خلق الأسباب فى الكون، لا حل إلا الشمس، كانوا يضجرون من حرارتك وجاء الوقت أن تثبتى أنك الأنبل ولا تستطيعين إلا أن تمدى يدك للغريق حتى لو أساء.. لكن ليس بيدها حيلة؛ فلقد التف الجليد حولها هى الأخرى.. لم تذق ذلك من قبل.. كان أبعد المستحيلات أن تذوق الشمس البرد.. كيف وهى مصدر كل شىء؟ يبدو أنها اغترت أكثر من اللزوم وآن الأوان أن يؤدبها الله كما لعن إبليس من قبل.. لمن الملك اليوم؟ لله رب العالمين. بيده نواميس الكون يسريها على ما يشاء من خلقه ويرفعها عما يشاء. يارا القفاص