قليلون من الشعب من يعرفون أن هذا الكيان الغامض المهول يمثل المؤسسة العسكرية المصرية ويرأسه رئيس البلاد، ولا يجتمع هذا المجلس بكامل هيئته وتشكيله اجتماعاً رسمياً إلا لوقوع حدث جلل يقترب من مناقشة قرارات تتعلق بمصير البلاد مثل الحرب. ولما كانت إزاحة الرئيس السابق مبارك عن السلطة أو إجباره على اتخاذ هذا القرار نزولاً على إرادة شعبية ساحقة وتجنيباً لدخول مصر فى سيناريو كارثى حدثاً جللاً فقد اجتمع المجلس العسكرى وأعلن أنه فى حالة انعقاد مستمر دون رئيس الجمهورية، ولم يكن يعنى هذا إلا إعلان انحياز أعضاء المجلس، ومن ورائهم الجيش، إلى مطلب الثوار الرئيسى: رحيل مبارك. المرحلة الانتقالية كانت شديدة التعقيد، وعملية اتخاذ القرار فيها كان بها الكثير من الأخطاء. ومن الصراع على الأرض إلى الصراع على السلطة عقب سقوط مبارك، وجد المجلس العسكرى (الكيان كله بكامل أفراده وليس المشير والفريق فقط) نفسه فجأة حكماً بين القوى السياسية المتشاكسة التى يطلب كل منها أكبر نصيب من مساحة السلطة، والكل يهرول نحو وضع العربة على الطريق الذى يريدها أن تسير عليه: الإسلاميون الأكثر حضوراً وتنظيماً وسيطرة على الشارع والأكثر ثقة أيضاً، والمجموعات الليبرالية الأكثر شراسة وصخباً واندفاعاً نحو اختطاف السلطة لتنصيب أميرهم رمز الدولة المدنية وحضارة العصر العولمى، وانضم إليهم اليسار الليبرالى وبقايا الشيوعيين الداعين بتبجح لإسقاط الدولة، كانت هناك أيضاً الأحزاب الورقية التى شاركت مبارك لعبة إفساد الديمقراطية لسنوات طويلة خلت ووجوه جديدة طامحة للعب دور على الساحة.. كيف يتعامل المجلس العسكرى مع كل هذه القوى فلا يسمح لإحداها أن تسيطر على الحكم أو أن تكون لها الغلبة دون تفويض ديمقراطى من الشعب فى ذات الوقت الذى يخرج فيه بالبلاد من منطقة الخطر؟! كانت هذه هى المعادلة الضاغطة التى يجب أن يحققها المجلس العسكرى، زاد من وطأتها التحريض الداخلى ضده من بعض القوى السياسية والأفراد لينسحب سريعاً من الساحة السياسية ويتركها فارغة ليملأها من تصوَّر أن له القدرة على ذلك دون انتظار لانتخابات تأتى بفصيل غيره للحكم، يساند التحريض الداخلى هذا دعايات من الخارج فى نفس الاتجاه لإبعاد المؤسسة العسكرية عن لعب دور سياسى فى مصر يعطل عملية تداول السلطة كما يريدها الغرب أو خلق ديكتاتوريات جديدة، بعد أن نجح الربيع العربى فى الإطاحة بالديكتاتوريات القديمة، وهذه قصة أخرى.. الشاهد أن المجلس العسكرى وعلى رأسه المشير والفريق لم يكن يطمع فى استلاب السلطة، وقد كتبت وردَّدت هذا مراراً فى السابق عن ثقة كانت تتأكد كلما دُفع المجلس العسكرى خطوة لتفعيل آليات الديمقراطية المتمثلة فى الانتخابات، وحرصه الشديد على أن تتم هذه الانتخابات بنزاهة وشفافية كبيرة، بينما الطامع فى الحكم لا يفعل ذلك لكن يملى ويفرض إملاءات فوقية ولا يسمح بسؤال الشعب عن رأيه أو صعود قوى سياسية أخرى لمشاركته السلطة منذ البداية.. إلى هنا والأمور تبدو جيدة، فما هو الخطأ الذى وقع فيه المجلس العسكرى؟! الخطأ هو أن المجلس العسكرى -وعلى رأسه المشير والفريق- أراد أن يستمر فى لعب دور الحكم بين القوى السياسية وتحديداً بين الإخوان وخصومهم إلى أطول وقت ممكن، أو على الأقل إلى ما بعد الانتهاء من وضع الدستور الجديد والتحديد النهائى لشكل الدولة وسلطات الرئيس فيها، خطأ آخر وقع فيه أعضاء المجلس وهو الخلط ما بين سلطات الرئيس الدستورية وانتمائه لجماعة الإخوان فى غير استيعاب من المجلس للقواعد الجديدة التى أهمها أن الشعب هو الذى اختار مرسى رئيساً مع علمه السابق بانتمائه، وهذا أمر مسموح به فى الديمقراطيات، وكان وارداً أن تأتى إلينا الانتخابات برئيس اشتراكى أو ناصرى أو ليبرالى أو يحدث هذا فى المستقبل، فهل ساعتها يتدخل المجلس العسكرى أو غيره ليشاركه الحكم حتى لا يتيح لفصيله ألا يسود؟! الديمقراطية لن تسمح لفصيل واحد أن يسيطر على الحكم إلى الأبد، وسوف تثبت أقرب انتخابات ما أقوله هنا، ووضوح الأمر يتسق مع المثل الدارج ونصه:«الذى لا يرى من الغربال أعمى».