النيل عند النوبى القديم آية مقدسة من آيات الله، من قبل الأديان الثلاثة وبعدها. نهر لا يمكن تلويثه أو الاعتداء عليه، أو حتى الحديث عنه باستخفاف النيل عند المصريين منظر خلَّاب، نهر يمكن التريض فيه. النيل عند فلاحى مصر ضرورة لرى زراعاتهم، ضرورة معيشة. النيل عند النوبى ليس ضرورة زراعية، ليس ضرورة مواصلة وتواصل، ليس ضرورة منظر، بل ليس ضرورة حياة؛ فالنيل لديه هو الحياة ذاتها، لذلك قيل إن النوبى هويته نيلية. النيل قرين النوبى فى شامل حياته، لذلك فتهجير النوبى معناه فصله عن قرينه، نزعه من ذاته. انتزاعه من نيله وإلقاؤه فى بيئة صحراوية معناه القتل المعنوى، فلا يبقى منه إلا كل ما هو باهت، كل ما هو مظهرى به بقايا ما كان نوبياً، لذلك النوبيون الآن هم نوبيون إلا كثيراً. ومن يدرس المجتمعات النوبية حالياً، يجد أن النوبيين يعانون نفس متاعب غيرهم من المصريين، مضافاً إليها مأساتهم الخاصة: أمراض الغربة، الحزن الداخلى، الإحساس الكئيب بالفقدان، شروخ شائكة فى وجدانهم. كان من المفروض أن ينهار المجتمع النوبى تماماً، لولا ما أبقاه الأمل فيهم من فخر بتاريخ تليد، قوة دفع حضارية ما زالت تقاوم. بالإضافة إلى أن الشتات المُركب داخل مصر وخارجها، فى تنويعات شتَّى، رغم كل سلبياته الخطيرة فإن به بعض الإيجابيات التى دفعت بجداول الأمل؛ من ناحية الأرزاق التى حصل عليها بعضنا بعدما كانت قد جفَّت تماماً بسبب خزان أسوان وتعليتيه ثم تهجير السد العالى، ومن ناحية اهتمام أجيال التهجير الأولين بالتعليم، وخاصية مقاومة الذوبان التى يجب أن تتم دراستها. النيل عند النوبى القديم آية مقدسة من آيات الله، من قبل الأديان الثلاثة وبعدها. نهر لا يمكن تلويثه أو الاعتداء عليه، أو حتى الحديث عنه باستخفاف. النيل ليس فقط مجرى مائياً، بل هو دنيا تحوى حياة مائية تماثل الحياة البرية، فناس النوبة هم «الآدَمير» أى أبناء آدم، أما من يعيشون فى دنيا النهر فهم «آمَنْ نُتُّو»، أى ناس النهر ومعهم مخلوقات النهر الآخرون. والسمك بالنوبية «أنِسِى» والأخت «أنِسِّى»، انظر التشابه! وأزعم أن السمك كان «تابو» عند النوبيين، أى مُحرَّم، هذا قبل الأديان السماوية، ثم أخذ هذا الاعتقاد فى التلاشى، فرغم وجود الأسماك فى النهر فلم يكن النوبيون مغرمين بأكل السمك، والصيادون كانوا يأتون من الصعيد! واضطرت بعض عائلات قبائل الكنوز للدخول فى مهنة الصيد، بعد أن نالتها كوارث التهجيرات أكثر من بقية القبائل النوبية. إذن النهر دنيا قرينة لناس البر «الآدمير»، وعند بعض النوبيين خاصة الفتيات قدرات للتواصل الأعمق مع ناس النهر، فتجد فتاة تأتى للنهر وترفع سطحه كأنها ترفع ملاءة مفرودة، ثم تهبط فى المياه لتعيش فترة مع ناس النهر! ولقداسة النهر لا يلوث النوبى مجراه أبداً، الأطفال حتى الثانية عشرة كانوا يستحمون عراة فى النيل، وإن رغب أحدهم فى التبول يصعد للبر. الذى يتوضأ حين يستنشق بالمياه فعليه أن يمجَّها فى البر، البقر لا يُسمح لها بالاستحمام فى النهر، بل يقوم صاحبها بجلب المياه وغسلها، الاحتفال بالمولود فى النهر، بالعرائس وبالوفاة، ملابس النساء والفتيات عبارة عن جلباب ملون عليه جلباب آخر أسود شفاف، فى ثلثه الأسفل تموجات النيل، رقصات النوبيين إن لاحظتها من أعلى تجدها تقلد أمواج النيل؛ الصفوف تتحرك بتموجات معينة، وحين يقومون بتشكيل دائرة فهى دوامات النيل، ورقص الشباب حين يسخن فهو فيضان النيل المؤقت. النيل من الأزل يأتى من الجنوب ماراً أمام النوبيين متجهاً شمالاً، لذلك حين تم بناء خزان أسوان وقيل لهم إنه عند إغلاق عيون الخزان فإن مياه النهر سوف تصطدم بالخزان الجدارى الحجرى وترتد جنوباً - لم يتفهم النوبيون هذا اللغز المخالف للطبيعة، ولم تبلغهم السلطات وقتها بأنه تم إغلاق عيون الخزان، فارتدَّت المياه ليلاً وأغرقت قرى الكنوز النوبية، ووقعت مآسٍ لم يتحدث عنها الإعلام، فمن منهم سيذهب إلى آخر البلاد ليسجل فظاعة ما جرى، ويحصى من قُتلوا ومن فُقدوا والبيوت التى أطيح بها؟ من يحصى الجثث التى طَفَت مع النيل، ومرت من عيون الخزان شمالاً؟! انقلب النيل معشوق النوبيين وذاتهم، انقلب مضطراً ليكون وبالاً عليهم رغم أنفه، ثم كان التهجير السدِّى على النيل عام 1964 الذى ألقى بهم فى الصحراء، ليتعذبوا هناك بافتقاد النيل، لذلك لا يتعجب أحد حين يعلم أن كبار السن فى سنوات التهجير الأولى أصابهم ما يقال عنه بالبلدى «جت لهم نقطة»، أى شلل نفسى، فلا زرع ولا ضرع ولا نخيل ولا نيل، إذن أين ذاتهم؟ انفصلوا، فالنيل للنوبى هو توءمه السيامى المتكامل المتوحد، فصله معناه قتله معنوياً. فالثقافة النوبية، بمعنى أسلوب الحياة ومنظومة القيم والعادات والتقاليد، كلها مرتبطة بالنيل، وبدون النيل تنهار الثقافة النوبية. فى قرية توماس وعافية القديمة، كان النوبى حسين دنجى، أى حسين الأعمى، يتحرك وحده فى كل مكان فى القرية، يعرف الناس من أكف أياديهم حين يسلمون عليه وقبل أن يسمع أصواتهم، كبيرهم وصغيرهم رجالهم ونساءهم. صديقه المقرب كان عبده أفندى، بعد تهجير 64 زار عبده أفندى قرية التهجير، ذهب لحسين دنجى، وبدون أن يتكلم صافح حسين دنجى، أمسك «حسين» بكف عبده أفندى محاولاً أن يقرأ الكف، ففشل، تكلم عبده أفندى وقال: لم تعرفنى يا «حسين»؟! أنا عبده أفندى، فارتعش حسين دنجى واحتضن صديقه وبكى وهو ينهنه. - اتعمينا يا عبده، اتعمينا يا عبده!