قررت أن اكتب هذه الكلمات عندما عجز عقلي عن كتابة أي شئ آخر، فجالت في ذهني فكرة الاستسلام للنوم، ولكن النوم لم يسبق له أن جاءني في غير وقتة بعدما كنت قد خططت لاستغل رحلة سفري من الصعيد إلى القاهرة، في كتابة مقالات كنت أحتاج للوقت فقط لكتابتها. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. في البداية اقتربت من شباك التذاكر أبحث عن مقعد خال في أتوبيس متجه للقاهرة، كان يجلس رجلًا ضخم الجثة كثيف الشارب متداخل الملامح، اقتربت منه على حذر خوفًا من اشتياطته لو كنت أنا الزبون الآتي في الوقت غير المناسب. أخبرته عن أقرب حافلة متجه إلى القاهرة، رد على دون ان يدير إلي وجهه، إن هناك مقعد أخير في حافلة الساعة الثامنة مساءً، بادرته أنا بالمبلغ لكي يعطيني إياها قبل أن أفقد الفرصة في الرحيل. كانت الساعة تدنو من السابعة والنصف، أسرعت إلى مكتبة صغيرة بجوار محطة الحافلات، اشتريت مفكرة صغيرة وقلم لأدون فيها مقالاتي طوال الطريق.. صعدت إلى الحافلة، وقبل أن أبدء في كتابة أولى كلمتي اكتشفت أني أخطأت في تقديري للأمور.. وأخطأت أكثر عندما تخيلت أني أستطيع كتابة شئ في هذه الحافلة، الا إنه بساطة لم تكن مجرد حافلة إنها مصغر للشعب المصري بتركيبتة المختلفة. انطللقت الضوضاء في كل مكان وتعالت الأصوات، فخلفي يجلس مجموعة من الشباب قررو السفر من غياهب الصعيد إلى القاهرة، لقضاء فترة تجنيدهم بالجيش.. كانوا فرحين فضحاكتهم كادت تكون أعلى من محرك الحافلة، ربما لأنهم مقبلين على مرحلة جددة غير مدركين ما يختبئ بها، هم فقط مقبلين عليها بحماس الشباب الزائد أو ربما فرحين برحليهم إلى القاهرة وشوراعها الحالمة، فهي بالنسبة لهم جنة الله على أرضه!. منهم من يحادث صديقة في الهاتف، ويخبره أنها ربما تكون آخر مكالمة تجمعهما، هذا الشاب أدرك خطورة الموقف ولكنه متقبلة، فهو أمر لا بد منه.. في جانب منهم جلس صديق لهم، قرر أن يلتزم الصمت ويتكأ برأسه على النافذة المطلة على ضفة النيل، حاول زملائه إخراجه من حالتة الوحدوية، لكنة رفض وأصر على بقائه منفردًا في حزنه. يتشاركون في سمارهم الشبيه بصخور الجبال الصماء وبساطتهم المتناهية، على المقعد الذي بجواري كان يجلس رجل نحيف البنية، يرتدي ملابس غامقة وكثيرة لكي تقيه من البرد القارس، ملامحه بسيطة تحمل بعض الهموم، ويحمل حقيبة سوداء، قرر ألا يتخلى عنها طوال الطريق، يرحل للقاهرة لممارسة عمل له هناك، ثم يعود في الإجازات لقضائها مع أطفاله الصغار. وعلى المقاعد الأمامية يجلس بعض العمال البسطاء، طردتهم قسوة العيش في قراهم ولفظتهم بيتوهم، للبحث عن مصدر رزق في العاصمة، يرتدون ملابس يبدو عليها الرثاء والغبار، تروي للغريب عنهم صعوبة عيشهم.. صدر صوت خافت ممتزج بمشاعر حانية، يصدر من المقعد الذى يقع قبل مقعدي، به شاب في مقتبل العمر، يحادث فتاته في الهاتف وكأنه يتحسس دفء كلماتها له، ويرتشف من نهل أحرفها الرنانة التي تمتزج بأشواقها له، كأنه يعيش في عالم أخر بعيد عن ضوضاء الحافلة. في منتصف الحافلة يجلس رجل في العقد الرابع من عمره، اشتعل رأسه شيبًا، فضل الصمت وتناول بعض من اللب الأسمر الشبيه بسمار بشرته، ملقيًا على أرض الحافلة ما تبقى منه من قشر، الأمر الذي أزعج السائق المنسجم مع نغمات الراديو القديمة، فانتهر منزعجًا من فعل الرجل الأشيب مطالبًا إياه بالكف عن هذا، ولكن الأشيب لم يعره أي اهتمام، ربما لأنه لم يتبقى في رصيد صدرة جدل الأحد. وجوه كثيرة تحمل حكايات طويلة ومثيرة، وملامح متشابهة ولهجتهم المتداخلة صعبة الفهم أحيانًا، راحلين مخلفين ورائهم أما أم أو زوجة أو صديق، تاركين ذكريات تجول بعقولهم تتلاشى مع ابتعاد الحافلة عن قراهم وصعيدهم.. ربما يعودوا يومًا ما محملين كل منهم بغايته.. أتوبيس الساعة الثامنة، لم يكن مجرد أتوبيس، كان رواية أبطالها مجهولين وسيظلوا مجهولين!.