وهناك عدة مداخل لتفسير الاستبداد، أو السرطان السياسى، أولها نفسى، حيث يعزى الاستبداد إلى نزعة السيطرة أو السادية التى يقابلها خضوع أو مازوخية لدى الأتباع. وثانيها نفسى اجتماعى يضع عبء الاستبداد على المحكومين الذين يستسلمون للعسف والظلم إما عبر الإكراه أو الخداع، إلى درجة أن من يراهم أو يعايشوهم يقول عنهم إنهم لم يخسروا حريتهم بل كسبوا عبوديتهم. وثالثها لا يعيد الاستبداد إلى سلوك فرد مستبد بل إلى البنية الاجتماعية التى تنطوى على عناصر اقتصادية واجتماعية غير متوازنة وغير متكافئة تتفاقم من الزمن ولا يلوح فى الأفق أى حل أو بادرة لإنهاء هذا الخلل إلا بثورة عارمة، فيسعى النظام السياسى أو تقوم السلطة الحاكمة باتخاذ ما يلزم فى سبيل الإبقاء على الوضع القائم وفرضه قسرا ومنع تفجيره. وقد حلم الإغريق الأقدمون بنظام حكم يأخذ فى الاعتبار مواقف الناس وآراءهم ومصالحهم، فأوجدوا ديمقراطية أثينا، وجنح بهم الخيال إلى التطلع للمدينة الفاضلة، لكن هزيمتهم أمام أسبرطة ذات الحكم العسكرى أفقدهم الثقة فى ديمقراطيتهم. وأعطى الرومان مجلسى الشيوخ والنواب قدرة على مراقبة أعمال القيصر، وتعيينه فى حال الطوارئ لمدة ستة أشهر على الأكثر، لكن القياصرة كان فى أيديهم سلطات واسعة، وكان مجتمعهم يقام على أكتاف العبيد من كل لون، وكل حدب وصوب. وصنع المسلمون الأوائل قفزة هائلة بمنطق عصرهم وظروفه وأحواله، حين حدد الخليفة عمر بن الخطاب ستة أشخاص، ليس من بينهم ابنه، ليختار الناس منهم حاكمهم. وحتى حين تحولت «الخلافة الراشدة» إلى «ملك عضوض» لم يكن الحاكم يتمتع بشرعية إلا بعد «بيعة» الأمة له، وهذه البيعة إن تدهورت إلى أن صارت أمرا شكليا بحتا، لكنها ظلت خطوة نحو أخذ رأى المحكومين فى الاعتبار، ثم أخذت الدائرة تضيق حول من يؤخذ رأيهم فيمن يجلس على العرش، وظهر «ذهب المعز وسيفه» وتأرجح الناس بين المغارم والمغانم، كل على حسب موقفه وموقعه من السلطة، ونشط منتجو «الآداب السلطانية» التى إما أنها بررت للسلطان فعله فقهيا وبلاغيا واجتماعيا، وإما حاولت نصحه بمواربة ومداراة وتحايل. وفى عام 1957 صك «ويتفوجل» مصطلح «الاستبداد الشرقى» ليصف أنظمة الحكم التى تعيش ما يسمى ب«نمط الإنتاج الآسيوى» وفق الصياغة الماركسية، حيث المجتمعات النهرية «الهيدروليكية» التى تتحكم فيها السلطة عبر جهاز بيروقراطى مركزى فى تنظيم الرى، ولا يجد المزارعون بدا من طاعتها فى صمت وخضوع حتى يزرعوا أراضيهم، أو يجدوا ما يقيم أودهم. لكن الغربيين أنفسهم لم ينجوا من الاستبداد إلا فى القرون الثلاثة الأخيرة بعد أن ظلوا قرونا يرزحون تحت أغلال التحالف البغيض بين السلطتين الدينية والأمنية، أو الملوك وبابوات الكنيسة. لكن دخول أوروبا عصر النهضة والأنوار بعد الثورة الإنجليزية 1688 وبعدها الثورة الفرنسية 1789 وإبرام «عقد اجتماعى» بين الشعب والسلطة، جعلها تنفض عن جسدها غبار استبداد القرون الوسطى، بينما ظل الشرق، بما فى ذلك بلاد الصين والهند، يعانى من طغيان مقنع مستمر فادح وجارح. وقد استنام أغلب الناس لهذا وظنوه قدرا لا فكاك منه، ولم يحلموا بأكثر من أن يتمتع المستبد بقدر من العدل، ويرعى مصالح الخلق، ويتفهم حاجاتهم الإنسانية المتجددة، ولهذا اعتقد جمال الدين الأفغانى أن المستبد يمكن أن يشاور أهل الخبرة بغية اكتمال الأخلاق ووحدة الكلمة واجتماع القوة لبناء مشروع متكامل للأمة، حتى لو حمل الناس على ما تكره مؤقتا. وقال الإمام محمد عبده قوله الشهير: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل». وهذه المقولة تحمل فى باطنها بذور فسادها وفنائها، فالعدل لا يستقيم مع الاستبداد، والأخير يجب ألا يكون قدرا محتوما، أو حتمية سياسية واجتماعية لا مهرب منها، لأن ذلك يتناقض مع رسالات السماء، وطبيعة الأشياء، وفطرة البشر، والمسار الأفضل الذى يجب أن تسلكه الحياة فى طريقها إلى التقدم، الذى لا يجب أن يتوقف. (ونكمل غدا إن شاء الله تعالى)