لقد اجتهد صحابة رسول الله فى تنصيب من يخلفه فى حفظ الدين وإدارة الدولة، ولم يكن ذلك عن نص تشريعى إلهى، فالقرآن لم يذكر من سيخلف الرسول، ولم يضع نظاما أو شروطا للخلافة. أما الصراع الذى قام بين نظرية «الخلافة» عند السنة، ونظرية «الإمامة» عند الشيعة، فلم يظهر كقضية محورية فى نظام «الحكم فى الإسلام» إلا بعد عصر التدوين، أى بعد قرنين من وفاة رسول الله، حيث وضعت كل فرقة نظريتها، استنادا إلى «مرويات»، نسبها الرواة إلى رسول الله، ولو أراد الله تعالى «التنظير» لمسألة الخلافة أو الإمامة، لأنزل شريعة تُفصّل نظامها وآلياتها، يعمل بها الناس إلى يوم الدين. ثم جاءت فتنة مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، بأيدٍ مسلمة، وكانت هذه الفتنة هى القاعدة التى قامت عليها الأصول العقدية والتشريعية لأزمة «التخاصم والتكفير»، واستباحة الدماء بغير حق، بين أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، على مر العصور. ولقد كان من الضرورى أن تجد منظومة «الفقه السياسى» تخريجا فقهيا لهذه الدماء التى سُفكت بغير حق، مع سبق الإصرار والترصد، بعد مقتل عثمان، خاصة فى أحداث «الفتن الكبرى»، التى قتل فيها آلاف المسلمين. ولقد كان أهم الأدلة التى استند إليه أئمة السلف لإيجاد مخرج لهذه الإشكالية، هو قوله تعالى فى سورة الحجرات: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [9]). لقد اعتبروا هذه الآية دليلا على جواز سفك المسلمين دماء بعضهم بعضا، مع بقائهم على إيمانهم. وهذا التوظيف المذهبى للآية لم يُعط لحرمة الدماء حقها الذى ذكره الله تعالى فى كتابه الحكيم!! فهذه الآية الكريمة تتحدث عن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا [يعنى خناقة]، فأمر الله تعالى جهة ثالثة [وهى الدولة]، التى تملك وحدها القوة والسلطان، أن تتدخل لردع الطائفة الباغية: «حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، ولو كان السياق القرآنى يتحدث عن قتل وسفك للدماء، ما قال بعدها: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ». إن أحداث «الفتن الكبرى» كانت معارك قتالية، بدأت بموقعة الجمل، بين جيش خليفة المسلمين علىّ بن أبى طالب، وجيش السيدة عائشة، واستمرت عدة أيام، وأسفرت عن آلاف القتلى!! أى كانت ضد خليفة المسلمين، أى ضد الدولة نفسها وجهازها الحكومى!! فما علاقة هذه الآية بما ارتكب من جرائم جنائية فى أحداث «الفتن الكبرى»؟! لقد حرم الله تعالى سفك الدماء بغير حق، ولا يوجد دليل فى كتاب الله يبيح لمسلم سفك دم مسلم عمدا مع سبق الإصرار والترصد، إذن فعلى أى أساس شرعى سفك المسلمون دماء بعضهم البعض فى موقعة الجمل [36ه]، وصفين [37ه]، والنهروان [37ه]، وكربلاء [61ه]، والحرة [63ه] والتى قُتل فيها وحدها 12000، إلا أن يكونوا، ومعظمهم من الصحابة، قد خرجوا للقتال بناء على فتوى «فقيه»؟! وكذلك، فإن الذى يفجر نفسه اليوم لا يستند فى عمله هذا إلى «آية قرآنية»، وإنما إلى فتوى إمام، يعتبرها مقدسة، وإلا ما قدم حياته فداء فتوى ليست لها مكانة عقدية فى قلبه!! وعلى هذا لم تجد الجماعات الجهادية الإرهابية سبيلا لإظهار قوتها، أمام العالمين، إلا أن يفجر أعضاؤها أنفسهم بأيديهم، باسم الإسلام، والاستشهاد فى سبيل الله!! إن هؤلاء لم يعرفوا حرمة الدماء، فقد ملأت قلوبهم أزمة «التخاصم والتكفير»، بعد غياب فقه «الآية القرآنية» عنها!! وكان من الطبيعى، وسط هذه الأزمة التخاصمية التكفيرية، التى سرت فى دماء أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، أن تفرز منظومة «الفقه السياسى» ما اصطلح على تسميته ب«التقيَّة»، وهى أن يخفى المرء حقيقة ما فى قلبه تجاه الآخر، اتقاء أذاه، ثم تطورت لتشمل كل ما يحقق للمسلم مصلحة دينية أو سياسية!! ولو كانت «التقيَّة» سلوكا أخلاقيا، يتحلى به المسلم فى حياته، ما قيدها الله تعالى بسياق محدد، وبظروف وشروط خاصة، قد بيّنها كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى فى سورة آل عمران: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِى شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [28]). إن الذين اتخذوا «التقيَّة» دينا، بغير علم، هؤلاء يعتبرون كل من ليسوا فى جماعتهم كفارا، تحرم موالاتهم، لذلك فهم يعيشون بين الناس بهذه «التقيّة»، لوجود مصالح مشتركة بينهم، ولتحقيق أهداف دينية وسياسية، لن تتحقق إلا إذا قالوا ما ليس فى قلوبهم، حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم. لقد تحالفت كل الجمعيات والجماعات والأحزاب الدينية، ووقفت صفا واحدا، لتدعيم النظام الإرهابى الذى حكم مصر عاما كاملا، ومنها جمعيات لم تعرف السياسة يوما واحدا، ومع ذلك استغلت مساجدها فى نصرة وتدعيم التنظيمات الجهادية المتطرفة بالمال والسلاح؟! ولكن الأخطر من هذا، أن نسمح لمن كانوا حلفاء النظام الإرهابى بالأمس أن يعودوا إلى منابرهم الدعوية، ويفتنوا الناس بأحاديثهم، وهم فى الحقيقة ما أظهروا براءتهم من هذا التحالف إلا «تقيّة»، حتى يأتيهم «المخلص» الذى سيعيد إليهم حلم الخلافة مرة أخرى!! ألم يتعلموا الدرس من فتنة المجاهدين فى أفغانستان، وقد كانوا تحالفات إسلامية من جميع أنحاء العالم، ثم بعد أن حققوا هدفهم، وأخرجوا الروس من ديارهم، أخذ بعضهم يسفك دماء بعض، بسبب الانتماء المذهبى، حتى لا تحكم البلاد بمذهب غير المذهب الذى عليه الطائفة المنتصرة، وكل هذا باسم «الإسلام»، وتحت راية التمسك بالكتاب والسنة!! لذلك كان من الطبيعى أن يتخوف الناس من صعود الإسلاميين إلى دائرة الحكم، واليوم لم تعد تخدعهم المناورات السياسية، التى اعتاد أنصار «الفُرقة والمذهبية» أن يستخدموها لإرضاء الناس، وإشاعة روح الطمأنينة بينهم، وكل ذلك «تقيّة»، حتى يحققوا أهدافهم!! لقد ذهبت خيرية الأمة الإسلامية، ولم تعد، وأصبحت فى ذيل الحضارة، بسبب هذه «التقيّة» التى أفرزتها أزمة التخاصم والتكفير بين المسلمين، بعد أحداث «الفتن الكبرى»، لذلك لم يُمكّن الله تعالى للفرق التكفيرية المتخاصمة فى الأرض، ولم يُبدّل خوفها أمنا، فتدبر: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [55]) «النور». فهل حقق أتباع هذه الفرق التكفيرية المتخاصمة شرط وفاء الله تعالى بوعده، وهو: الإيمان، وعمل الصالحات، واللذان يقومان على قاعدة: «يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً»؟! أظن أن واقعهم يشهد بأنهم لم يحققوا الشرط، لأنهم لو حققوه لخلعوا لباس الطائفية، ولباس «التقيّة» المذهبية، من عالمهم.