فرق كبير بين أن يكون التحليل السياسى للاستفتاء ناتجا عن منقولات كلامية أو قنوات إخبارية وبين أن يكون ذلك من أرض الواقع، أى من مدرسة أعدت للانتخاب أو من موقع انتخابى؛ ذلك أنك تقرأ فى الطابور انفعال الناس الحقيقى ونظرتهم إلى الغد، وحينئذ يأتى تحليلك السياسى ناضجاً وواعياً وصحيحاً، ومن هنا فقد كانت التفاعلات مع استفتاء 2014 تفاعلات صحيحة واستنتاجات واعية. التقيت فيها مجموعة من الذين أصروا على أن يصوتوا لمصر؛ فالرجل العجوز لم يكن يشعر بالخوف على نفسه وإنما كان يشعر بالخوف على مستقبل أحفاده، أما المرأة فقد سئمت السفسطة والكلام الذى لا ينعكس أثره عليها وعلى بيتها وأطفالها، والحقيقة أن قراءة الطابور انتهت بى إلى عدة نتائج لا يهم أن تكون سلبية أم إيجابية، لكن المهم أن تكون صادقة؛ فأما النتيجة الأولى فهى ولا شك تتعلق بسر ذلك الإقبال منقطع النظير ولا يمكن بالطبع أن نسند ذلك إلى مجرد الشعور الوطنى وإن كان الشعور الوطنى كان متوافراً بكثرة داخل الطابور ولكننا لاحظنا أن الروح الوطنية تتعانق مع الشعور بالاطمئنان لوجود الزعامة التى صنعها الشعب ومنحها للفريق السيسى، فلم تكن تلك الاستجابة إلا كاشفة عن رباط نفسى بين طبقة من الناس وبين الفريق السيسى، وهذه الطبقة ولا شك لا تجيد ترديد مصطلحات النخب المختلفة ولا مصطلحات الإعلاميين ولا الأحزاب حتى أصبحت ثورة 30 يونيو من صناعة هذه الطبقة ولا شك فتلك الطبقة هى التى خاصمت «مرسى» ولم تجد فى «مبارك» معيناً لها فوضعت أملها كاملاً على كاهل الفريق السيسى، من أجل ذلك فإن الغالبية العظمى من المصوتين كانوا من تلك الطبقة القادرة على حسم أى انتخابات مستقبلية، أما النتيجة الثانية فتكمن فى أن التيارات الإسلامية أو التى اختارت لنفسها ذلك الاسم بدأت تفقد بريقها وصدقها لدى الجماهير بأسرع مما نتصور وقد ظهر ذلك على مستوى النخب وعلى مستوى الطبقة التى أشرنا إليها فى النتيجة الأولى، وهى طبقة الكادحين على السواء، فلم يعد شعار الإسلام جاذباً للآلاف والملايين، وإنما أصبحت مصداقية التطبيق هى الشعار الأولى بالرعاية؛ ففى النقابات المهنية فقدَ من أطلقوا على أنفسهم اسم التيار الإسلامى ثقة أبناء المهنة ففقد هؤلاء مقاعدهم فى اتحادات الطلاب ثم نقابة الصيادلة ثم نقابة الأطباء، ثم ها هم أيضا يفقدون نقابة المهندسين، فلم يكن أحد يتصور أن يحتشد الناس لسحب الثقة من مجلس تم انتخابه؛ ذلك أن سحب الثقة بمثابة اتهام فى الكفاءة أو الأمانة أو الاثنتين معاً ويكون التصويت ب«نعم» فى سحب الثقة هو حكما قضائيا غير قابل للطعن فيه؛ ذلك أن الذى يحكم هنا هو الجمعية العمومية، وبنفس الدرجة سحبت الطبقتان المتوسطة والفقيرة من التيار الذى أطلق على نفسه اسم الإسلامى الثقة وذلك فى استفتاء 14 يناير 2014، فسحب الناس الثقة تماماً من أصحاب ذلك الشعار وكان احتشاد الناس احتشاداً مركباً بين تأييد الدستور وبين رفض الذين ملأوا حياتنا بالشعارات ثم ها هم يملأونها بالرعب فرفض الناس أن يحشدهم أحد فحشدوا هم أنفسهم وجاءوا من كل فج عميق، ومن هنا فإن على إدارة الإخوان المسلمين أن تراجع نفسها، وعلى إدارة حزب النور أيضاً أن تراجع علاقتها بالجماهير؛ ذلك أن أعضاء حزب النور لم يظهروا داخل الطابور أو حتى أمامه لكى يدعوا الناس للتصويت ولكنى فى ذات الوقت لا أنفى ذلك الجهد الذى بذله حزب النور، بل إنى أتعجب من أن هذا الجهد لم يكن له النتيجة المناسبة. أما النتيجة الثالثة فهى اختفاء الشباب الثورى فى معظمه عن المشهد، بل إن ظاهرهم أنهم لم يكونوا متحمسين لتلك الخطوة، بينما احتل الصدارة نوع آخر من الشباب أغلبهم من الباحثين عن عمل أو وظيفة أو أصحاب المهن البسيطة المتواضعة أو الحرفيين أو حديثى التخرج وربما لا يحمل لسانهم الكثير من العبارات الدسمة، وهم بخروجهم أثبتوا أن النخب الثورية من الشباب قد تدعو إلى الثورة ولكنها لا تنجح فى صنع ثورة دون القواعد العريضة التى خرجت للاستفتاء من الشباب؛ فالدعوة إلى الثورة شىء وصناعة الثورة شىء آخر. أما النتيجة الرابعة فتكمن فى أن الرجل الذى يملك ثروة ولا يعرف كيف يستثمرها فإنه يعد فى القانون سفيهاً، وذات الأمر ينطبق على الحكومات حينما ترزق بثروات عديدة فلا تحسن استخدامها، وهو الأمر الذى فات على الرئيسين السابق والأسبق، والثروة هنا فى مصر هى الشعب الذى يقدر دور الزعيم ويصطف فى الوقت المناسب، ومن هنا فإن من السفه أن تضيع هذه الثروة دون أن يتم استثمارها فى مشروع قومى واحد، ويجب أن نعى مبكراً وقبل فوات الأوان كيفية استثمار تلك الثروة؛ ذلك أنه إذا لم يتم الإعلان فوراً عن مشروعٍ قومى يلتف حوله الشعب ويسهم فى الحد من البطالة ويعمل على تحسين الدخول فإنه سيعود الإحباط بالناس أكثر مما كان وسيعود الشعب المصرى إلى جحره وستعود إلينا استفتاءات لا يزيد الحضور فيها على آحاد الأفراد. وأما النتيجة الأخيرة فإنه قد ظهر، ومع الفخر، أحزاب مصرية عملت بأكثر من طاقتها دعاية وتصويتاً وحشداً للجماهير إلا أننا قد وجدنا أحزاباً أخرى انتشر أعضاؤها على القنوات الفضائية حماساً وذكراً لمحاسن الدستور، لكننا لم نجدها فى طابور المصوتين. وهكذا عاد تلاحم الأمة وظهرت أمتنا المصرية فى الصورة أمة واحدة وهى نتيجة لم يتم الحصول عليها إلا بتضحيات عظيمة؛ فذاب المسيحى داخل المسلم وانتفت دعوات التفرقة بين الشيعة والسنة واختفى تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار وتغلبت المرأة على الرجل فى معركة الجهاد فكانت أكثر صلابة ولم تنتظر كوتة لحمايتها أو للدفاع عنها وعن مصر كلها، ومن الجميل أن التصويت كان تحت أصوات القنابل، ومع رسائل التهديد لبّى المصريون النداء، ومن هنا فإن أربعين بالمائة هى نسبة الحضور تساوى عند المحلل السياسى الفطن مائة فى المائة لأنهم عشرون مليونا من المواطنين قاموا بالتصويت ضد الخوف بل والأكثر من ذلك أنهم وبمجرد أن علموا بخبر تفجيرات محكمة الجيزة لم يزدهم ذلك الخبر إلا إصراراً على التحدى، وهذا هو عهدنا بشعبنا المصرى، ذلك المارد الذى لا يعوقه عائق أو يضعف من عزمه كبر التحديات، وخلاصة الأمر أنه قد وُلد على أرض مصر شرعية جديدة ليست شرعية الواحد فى المائة ولكنها شرعية اقتربت من المائة فى المائة.