فى الثلاثين من يونيو عام 2012، أعطى الشعب المصرى د.محمد مرسى الشرعية ليخدم كرئيس للدولة. وفى الثلاثين من يونيو من العام التالى تظاهرت الملايين لإسقاط شرعيته، غير أن الشرعية الدستورية -التى استند إليها مرسى فى خطبته الأخيرة وكررها 19 مرة- بقيت معه حتى استفتاء 14 يناير. يومها قال الشعب كلمته وحسم أولوياته وأعطى شرعية الصندوق للنظام الحاكم. كثير من المصريين لم يتصوروا أن يحظى الدستور بكل هذا التأييد، وأنا واحد منهم. والبعض أيضاً قد يختلف مع الدستور أو مع خارطة الطريق. ورغم المبالغات الناتجة عن الاستقطاب، فإن كل شىء فى عالم السياسة يحمل الوجهين السلبى والإيجابى. وما السياسة إلا «عملية المفاضلة» (المصطلح لبيتر جون، أستاذ التنظير السياسى بجامعة لندن) بين اختيار له مساوئه وأفضاله وآخر له مساوئ وأفضال أخرى. حسم الشعب المصرى هذه المفاضلة لصالح الأمن والاستقرار. لا شك أنه ضحى ببعض الأشياء لصالح هذا الاختيار، أقلها انخفاض هامش الحرية، وأثقلها انقسام الشارع المصرى، وفيما بين الانخفاض والانقسام تضحيات كثيرة أخرى. فى عملية المفاضلة هذه يكون لكل شخص حساباته وأولوياته، وبناءً على مجموع هذه الأولويات تنتخب المؤسسات الشرعية وممثلوها لتعكس الأولويات الجمعية للشعب. وما على الساسة والمحللين إلا كشف العملية الحسابية التى يقوم بها المواطن قبل حسم اختياره لكى يضمنها له إذا أراد من المواطن أن يعيد انتخابه أو التصويت فى صفه. كانت العملية الحسابية لانتخاب «مرسى» فى غاية التعقيد، وهو ما لم يفهمه الرئيس السابق، فأدى إلى سقوطه. من انتخب مرسى انتخبه على سبيل التجربة لأنه اعتاد رئيسا عسكريا منذ إعلان الجمهورية، والتجربة كمصطلح تحمل احتمالية الفشل كما تحمل احتمالية النجاح. أى إن الشرعية التى أعطاها الشعب ل«مرسى» لم تكن ثقة فيه بقدر ما هى اختبار له. الأهم أن هذا الاختبار كان مشروطا بعدة قواعد للعبة، على رأسها مشاركة الجميع فى الحكم والبعد عن الإقصاء والاستقلال عن الجماعة. كما أن من انتخبه انتخب دكتورا يعمل فى مؤسسة «ناسا» له 4 نواب منهم امرأة وقبطى ورئيس وزراء من الشخصيات العامة غير المنتمية لتيار سياسى، وعنده مشروع متكامل للنهضة. سقطت شرعية «مرسى» منذ أول يوم لأن من انتخبه الناس ليس «مرسى» الذى جاء رئيسا. ولكى نتعلم من التاريخ، يجب ألا يلهى القائمين على الحكم التوافد التاريخى على التصويت ب«نعم». نعم للدستور، كما هو الحال فى نعم لمرسى، ليست «نعماً» مطلقة، ولكنها تحمل فى طياتها الكثير من الحسابات المعقدة التى يجب أن يفهمها صاحب القرار. نعم للدستور قد تكون نعم للسيسى، وقد تكون نعم للاستقرار، وقد تكون لا للإخوان (عنداً فيهم)، وقد تكون نعم للجنة الدستور الممثلة من 50 شخصية من مختلف الأطياف، وقد تكون كل ما سبق ومعه الكثير من العوامل الأخرى. كل هذا يجب دراسته ودمجه فى كل خطوات خارطة الطريق القادمة. لقد نجحت مهمة تمرير الدستور، إلا أن مهمة تطويع الشعب ستبقى مهمة مستحيلة، والطريق الوحيد للاستقرار هو فهم أولويات هذا الشعب والعمل على تحقيقها، وإلا سنظل فى لعبة «البينج بونج»، نكسب معركة ونخسر الأخرى.