الصدفة، فى أحد تعريفاتها، هى «القدر الذى لا يمكننا التنبؤ به أو التحكم فيه». الصين - مصر.. 6 يناير 2013: المناضل والمثقف الناصرى عزازى على عزازى، يتهيأ لدخول غرفة عمليات أحد المراكز الكبرى لزراعة الكبد فى الصين، بعد أيام من وصوله إلى تلك البلاد البعيدة. فى نفس اللحظة ينتقل الخبر إلى مصر، فينتفض محبوه ورفاق عمره وأصدقاؤه وتلاميذه فى مظاهرة حب على مواقع التواصل الاجتماعى، ويتبارى جميعهم فى التضرع إلى الله أن يعيد حبيبهم سالماً معافى إلى أرض الوطن. قرية أكياد، محافظة الشرقية، 6 يناير 2013: تصدح أرجاء سرادق العزاء بآيات الذكر الحكيم ترحماً على روح البطل العظيم سليمان خاطر، فى يوم ذكرى رحيله السابعة والعشرين. سليمان الذى مات فى سجون مبارك، أثناء تنفيذ حكم عسكرى بالسجن، عقاباً له على استدعائه مخزون رجولته ومواجهته جنوداً صهاينة تجرأوا على التسلل إلى نقطة حراسته على الحدود المصرية، فقتل منهم 7 دفعة واحدة. يا إلهى! كيف تواعد الصديقان القديمان بهذه الطريقة العجيبة، فتعانقت دعوات الرحمة على روح سليمان ودعوات السلامة لكبد «عزازى» وصعدت معاً إلى السماء! من بين أبناء جيل السبعينات الذى دخل فى صدام طويل مع «السادات»، لدفعه إلى حرب تحرير الأرض فى 6 أكتوبر، ورفض اتفاقية السلام مع الكيان الصهيونى، تحتفظ ذاكرة «عزازى» بتفاصيل خاصة ودقيقة عن صديقه «سليمان»، وفى كل مرة يتحدث أو يكتب عنه، تلمح بوضوح ذلك الوجع تأثراً بالبطل الذى خلدته الذاكرة الوطنية، بينما أهدرت الأنظمة دمه وباعته رخيصاً، ولم ترد الاعتبار لفدائيته ودفاعه عن قدسية التراب الوطنى حتى اليوم. قبل 4 سنوات، جمعنا لقاء، أتذكّر تفاصيله جيداً، كانت ليلة مولد سيدنا الحسين، خرجنا من جريدة الكرامة إلى هناك مباشرة، حيث كان «عزازى» رئيساً لتحريرها، وبعد جولة قصيرة فى «الحسين» جلسنا على أحد المقاهى. لحظات صمت لم تطل، انطلق بعدها بدون مقدمات، فاتحاً حديثه بالإمام على كرم الله وجهه والحسين، ماراً بأولياء الله الصالحين، عطفاً على محمود نور الدين، وخالد عبدالناصر والشيخ حامد إبراهيم ونظمى شاهين، أبطال ثورة مصر، وانتهاء ب«سليمان خاطر»، وكمن يتحدث عن «ذرية بعضها من بعض» كنت ألمس فى حديثه شوق الصوفى وحنين العاشق ولهفة المحب لهم جميعاً، وهو كذلك. فخر «عزازى» ببطولة ابن قريته، لا يستطيع إخفاءه، وهو يروى اللقاءات التى كانت تجمعهما قبيل تجنيد «سليمان»، وفى أيام إجازته من الخدمة العسكرية، وسعى «عزازى» مع رفاق النضال من التيار الناصرى واليسار، لتحويل عملية «سليمان»، إلى قضية رأى عام، وكان ذلك المثقف «ابن أكياد» دينامو ذلك الحراك، فقد كانت تربطه صلة وثيقة بأسرة «سليمان»؛ شقيقه عبدالمنعم ووالدته الحاجة «سيدة»، حتى نُشرت القضية وتفاصيلها بصحف المعارضة، وبات «دم سليمان» القضية الأولى للحركة الوطنية والطلابية، فكتب الشاعر محمود الطويل أغنية «وصية سليمان خاطر»، وأبدع غناءها الشيخ إمام، وخلده الشاعر العراقى مظفر النواب فى قصيدة رائعة، وكثيرون آخرون، وبينما تصدى «عزازى» ورفاقه لتنظيم مؤتمر شعبى حاشد، فى «أكياد»، مسقط رأس «سليمان» احتجاجاً على اغتياله، رغم أنف النظام، كان «مبارك» مُصاباً ب«هيستريا» بسبب انزعاج الصهاينة، مما فعله ذلك «الجندى المجنون»، حتى إنه قال فى اليوم التالى للعملية إنه «يشعر بالخجل بسبب إطلاق النار على الإسرائيليين». وكأنه يعرف الخجل! ولا يزال «عزازى» يحتفظ بكواليس عملية اغتيال «سليمان» داخل السجن، التى لم تفلح كل سيناريوهات السلطة الكاذبة لترويجها على أنها «انتحار». ربما كان ذلك الارتباط القدرى الذى جمع ابنى القرية الواحدة، هو ما جعل اسم البطل الشعبى «سليمان» مرتبطاً باسم المناضل المثقف «عزازى» الذى ظل وفياً لنديمه طوال سنوات عمره، ولم يمنعه من إحياء ذكراه هذا العام سوى سيف المرض المُسلط على كبده. من يعرف «عزازى» جيداً، لا شك يعلم قدرته الفائقة على الحكى وحب السهر، كأنه فلاح جاء من محافظة الشرقية إلى العاصمة خصيصاً لهذا الغرض، وليعيش نصف عمره فيها ليلاً، متنقلاً بين شوارعها وميادينها، وصحفها ومقاهيها، يكتب ويناضل ويلعب طاولة ويأكل فول وطعمية وكشرى، ويزور مقامات آل بيت رسول الله والأولياء الصالحين. وقليلون فقط من رفاقه فى السياسة والصحافة من يعرفون موهبته فى فن الكاريكاتير والرسوم الساخرة، وهى الموهبة التى أهمل تنميتها، ربما انحيازاً لذلك النوع من الكتابة الذى يمزج فيه ببراعة بين العام والخاص ويحول التفاصيل الصغيرة إلى كتلة متماسكة من القناعات والرؤى الواضحة، ناهيك عن رشاقة قلمه ورهافة حسه إذا تعرّض بالكتابة لشخص يحبه. الآن يا «عزازى» آن للفلاح الكامن داخلك أن يتجاسر على ذلك المرض اللعين، الذى حرمك من أحبائك، وآن للصوفى الذى يتملك روحك أن يحوّل المحنة إلى منحة، واثقاً فى قدرة الله راضياً بقدره، وآن للمناضل أن يعود إلى الوطن، ليحكى للمحبين مزيداً من أسرار سليمان خاطر، لتحفظ الأجيال سيرة أبطالها من مصادرها الأصلية. قُم عفياً، ولا تدع فرصة للمرض أن يروعنا قلقاً عليك. وعُد سالماً، فقد انتهيت من إعداد ال«CD» الذى طلبته لنوادر تسجيلات أحمد التونى وياسين التهامى، وها هو الفيديو الذى صورته لك وأنت ترقص فرحاً على صوت عبدالحليم حافظ وهو يغنى «الله أكبر بسم الله» جاهز لنلتف حوله، ونستعيد ذكريات يوم رحيل مبارك عن حكم مصر. وإن كان لنا من رجاء فيك، فنستحلفك بالحسين ووالده، وسليمان وخاطره، ونور الدين وصحبته، ألا تطيل الغياب، فلك فى مصر أحباب، ينتظرون ابتسامتك. أعرف أن لديك من صفاء النفس ما يجعلك تسمع كلامنا عنك وهمس دعائنا لك، ومن صدق البصيرة ما يجعلك ترقّ لقلوب قد شغفها حبك. فدعنى أقتطف لك من بين ما قاله محبوك دعوة حمدين صباحى لك يوم سفرك: «عزازى يا شقيق الروح.. ربنا يشفيك ويكرمنا فيك كما أكرمنا بك. ترجع لنا بالسلامة».