كان شابًا يافعًا يسوق الميكروباص في خفة وسرعة بديهة، يستمع إلى الكاسيت في أعلى صوت، حينما يمر به سائق مزاحمًا أو مسابقًا أو "أهوه غلاسة كدة"، يدق الكالاكس في عصبية ويخرج رأسه من النافذة قائلاً (تييييييييييييييييت)، وهكذا حدثت أحد هذه المواقف التي استدعت "التيت المظبوط" ورمى هو "الإيفيه إياه مستهزءًا" بذلك الرجل الذي قفش عليه بسيارته الفارهة، فابتسمت له إحدى الراكبات في حياء ابتسامة أشعرته معنى الرجولة الحقيقي وبعد أن كان سيسب أهله هدأ بالاً، واستكمل "سواقته" في ابتسامة واسعة. كانت طيبة الرائحة مهندمة الملابس أنيقة الحركات فاقتربت منها صديقتها تحتضنها، فاشتمت عطرًا رقيقًا خافتًا فأطالت الأحضان، وغادرتها ملفوفة بموسيقى فرنسية تحمل عطر صاحبتها. كان رجلاً كبير السن أشيب الشعر مهلهل الثياب، مريضًا في هيئته، كشفت عليه، فسألها إن كانت مخطوبة أم لا، فأخبرته أنه قد قُرأت فاتحتها الجمعة الماضية، فمال عليها في جدية: "لأ سيبك م الخطوبة دي، أنا هجوّزك لواحد من العيال دول"، وأشار لمراهقين بجانبها يبدو أنهما حفيداه وقد ماتا ضحكًا من جدية الرجل "إنتي يكفيكي ولا خمسين ألف"، فردت قبل أن تغادره في ضحك وحياء: "لأ أنا هتجوّزك انت يا حاج" فابتسم من دعابتها، وكأن الدنيا قد عادت إليه من جديد. كانت تحب الدنيا تحب أن تمشي في خفة ودلال، تنظر إلى السماء متغنية حالمة، تُري كم من النجوم تتوارى حياءً من الشمس الآن، فكادت أن تصطدم بذلك الشاب الذي نظر بدوره إلى ما تنظر في السماء، متعجبًا قائلاً "مفيش حاجة !" فابتسمت في سرها وغادرها ضاحكًا بعد أن تحاشت الاصطدام. كان موظفًا دائم التبسم ولكن يبدو أن الحياة اليوم واجهته بما يكره، فذهبت إليه عاقدة يديها خلف ظهرها تارة ومشبكة إياهم أمامها خجلاً تارة أخرى، نظرت إليه وكأن عيونها توحي بما تريد فابتسم قائلاً: "أكيد اتأخرتي النهارده وعاوزاني أظبطلك الإمضاء"، فاشتكت إليه في رقة الأطفال: "مانا يا أستاذ أحمد ركبت مع سواق رخم، يرضيك كدة"، فرد بعد أن انفجر ضحكًا "لأ ما يرضنيش". كانت بسيطة كما الأطفال، لو مرّت على إحدى زملائها ذكورًا أو إناثًا ألقت السلام، ولو واجهت الأعزاء إلى قلبها، ابتسمت لهم في مودة صادقة فيبادلونها هذا الوله الطفولي العجيب مع كثير من الاطمئنان. أحبت كونها أنثي، لم تتصنع ما لم تكنه ولم ترفض ما كانته، بل ابتسمت له زهوًا فزانها رغم اندهاش الناس لأسلوبها، فلو امتلك الرجل صوتًا غليظًا كان هذا لرجولته، ولو امتلكت هي صوتًا رقيقًا اتهموها بالفاحشة والبغاء، لم تفهم رغبة البشر في عيش حياة لا تمثلهم، لم تمتثل لرغباتهم في التقليل من شأن براءة ورقة وجدانها، لم تكن تضحك سوى سعادة أو مكرًا، لم تكن تحزن سوى بكاء، لم تكن تجري سوى مرحًا أو هروبًا، لم تمارس أنوثتها ميوعة أو تخفيها نفاقًا، بل احترمت ما وهبه الله إياها، وصارت تمارسه طوعًا وامتثالاً لإرادة الله.