يصادق وحدته بالطعام.. يصالح نفسه بكميات أكبر من «الكاتشاب».. ليس غريباً أن يكون صديقه «الكاتشاب» فى زمن يختلط فيه الحلو بالمر، زمن كل شىء فيه.. معصور. ■ ■ ■ حينما ينتهى من عمله، يتوجه إلى مطمعه المفضل، يحبه لأنه يعتبره أكلا ومتعة فى آن واحد، متعته الوحيدة أن يتأمل من خلف زجاج المطعم، ويرى البشر من أعلى كدُمى تتحرك بآلية تشعره كأنه فى مدينة للملاهى، يلمس يده ليتأكد أنها ليست من الحديد، ينظر إلى الجميلة التى تعبر الطريق حتى يتأكد أن قلبه ما زال ينبض نبضاً حقيقياً وليس كبندول الساعة. يجلس دائما على المقاعد المرتفعة التى يعتقد أن من صممها كان يشعر بالوحدة.. يحب الأطفال الأشقياء ولكنه يكره السمجين، يكره طنينهم من حوله. يهرب إلى فتاة محجبة تجلس وحدها ترتدى جينز «بندكور» وبدى «كت» فوشية وتحته آخر أبيض بكم يجسم ذراعيها، تفرك يديها بحركة عصبية. يتشاغل بالنظر للوجوه الجالسة حوله، صخب شلة بنات ترتدى زيا مدرسيا موحدا، تذكره بمدرسته العسكرية الخشنة. تنظر إليه إحداهن بشقاوة وتبتسم ابتسامة خفيفة، فلما بادلها الابتسامة، اقتربت من صديقتها هامسة وغرقتا فى ضحكة خليعة. امتعض وشعر كأنه فى مقام بابا أو جدو، منطق الزمن الذى لا يمكن خداعه. يحب الحياة ويمقتها فى آن واحد. يحاول أن يأخذ منها ما يقدر عليه، مقتنعاً بأن ما تدركه الآن قد تعجز عن أن تحلم به بعد لحظة.. تلك اللحظات التى لا تتجاوز «أكلة جميلة» يأكلها بتلذذ، رواية ممتعة يغوص فيها، فيلم أبيض وأسود يتمنى أن يكون ولو «كومبارس»، وأن يغافل آلة الزمن فلا يعود إلى عصر الألوان. انشغل بهاتفه المحمول باحثاً عن أى شخص يحادثه قتلا لجوعه، لكنه يجد الجميع قد اختفوا. تنبه على رائحة البطاطس المحمرة الشهية، بدأ فى تناولها مغموسة بالكاتشاب متلذذاً، قفزت من يده زجاجة الكاتشاب البلاستيكية، انفتح الغطاء مسقطاً كل المزيج داخل طبقه، أحدثت هذه الحركة جلبة لفتت الأنظار، نظر إلى من حوله محرَجاً، فلمحها تنظر إليه مبتسمة، مشجعة على تجاوز الموقف. عاد إلى طبقه، ثم نظر إليها مرة أخرى، فبادلته النظرة بابتسامة. أربعينية، تميل للبياض، شعرها أصفر مصبوغ، يصل إلى كتفيها، ماكياجها خفيف، عيناها واسعتان، عسليتان.. حزينة، ترتدى بلوزة وردية للون، مفتوحة الصدر قليلاً، وبنطلونا جينز فاتح اللون، أظافرها مصبوغة بلون وردى لامع. أشارت له بطلب ولاعة، فانتقل على طاولتها وأشعل سيجارتها كما أشعلته هى. تحدثا بإحساس الأصدقاء القدامى، ولهفة المراهقين، تبادلا أرقام الهواتف. عرف أنها آنسة، وأنها تعمل فى مجال الطيران المدنى، وتسافر كثيراً، وأنها تحب عملها جداً لأنه يبعدها عن مصر أطول وقت ممكن، وأنها طوال عمرها تحلم بأن تكون «كابتن طيار» أو «مضيفة» فتحقق جزءا من حلمها. عرف حبها للسينما، والموضة، والقطط. اقترح عليها أن يلتقيا فى أى وقت يناسبها ليشاهدا أحد الأفلام الكوميدية.. رحبت وأكدت له أنها سوف تهاتفه ليلاً. انصرفت، مثيرة فى نفسه خيالات كثيرة، استغربها وتحير فى الشعور الذى داهمه عن اختلاط أنوثتها بذكورة، فابتسم، اعتبرها تجربة مثيرة. صوتها عبر الهاتف كان مثيراً، حميمياً أكثر. حكت له عن حياتها المرفهة، ودماغها «الناشفة»، ومغامراتها ونزواتها، وإصرارها على تجربة كل ما هو غريب. أما أختها «ندى» فكانت على النقيض منها تماماً: هادئة، رومانسية، الحب عندها هو الأهم. أما هى، نادية، فكانت تسخر منها حتى وقعت فى الحب، ولجأت لندى لتعرفها هذا العالم الغريب عنها، وأدخلتها إلى تفاصيله الناعمة. كانت ندى تعيش أجمل قصة حب، دعمتها نادية بعد أن شعرت بحلاوته. تزوجت ندى، وليتها ما فعلت. تكررت تلك المأساة التقليدية. لقد تحول زوجها إلى شخص مختلف تماماً: أخرق، شهوانى، يتركها أياماً بلا أى خبر عنه، وعندما يوجد فى البيت، يتحدث مع عاهرات فى الهاتف دون أن يعيرها أى اهتمام، وبكل وقاحة يسبها متهمها بأنها «مش ست» أو «دكر متقيِّف». تحملت ندى من أجل ابنتها الصغيرة، لكن الأمر وصل إلى الإيذاء الجسدى. وبدأت تنتابها حالات هياج شديد، تبكى فيها حتى تكاد عيناها تسقطان خارج جمجمتها، حتى تصل إلى ما يشبه الغيبوبة. ما زالت نادية تروى وهى تبكى بحرقة: «الحب قتل ندى، ملعون أبوالحب اللى يذل». حاول أن يحتوى بكاءها، ونجح فى أن يجعلها تستكين فى حضنه المتخيل. شكرت صنيعه وسعدت برنة صوته الحنون. ثم كان لقاء السينما، فاختارت فيلم «بوحة»، وسخرت من شخصية البطل. كان يوماً لطيفاً، مليئا بالبهجة التى افتقدها منذ أن اختفى الجميع من حوله. جاءت على أبهى صورة، ب«جيب جينز» على الركبة، وبلوزة محبوكة على الجسد الشهى، عاملته برقة ودلال لم يكن يتخيلهما. اختارت سينما فلوريدا بمساكن شيراتون ليجد قاعتها أقرب لغرفة النوم فى حجمها وعدد مقاعدها، لكنه لم يعابثها سوى فى التعليق على الفيلم. شعر بأنه مقبل على تغيير فى حياته حتى لو كان وقتياً. تجرأ وطلب منها أن يأكل من يدها فدعته لبيتها. لم يكن يتوقع أكثر من سهرة لطيفة، فقط تجربة مثيرة مع أنثى ناضجة. استقبلته مرتدية فستانا فضفاضا منقوشا بزهور، مع ماكياج رقيق، وعطر فواح برائحة الحلم، وأضواء الشموع تصنع جواً من الدفء والإثارة. شعر وكأنه فى بيته الذى يتمناه، فجلس فى راحة على الأريكة الناعمة، وتنفس فى بطء مغمضاً عينيه. دعته لكأس من كوكتيل فواكه مصنوع بعناية، فى كريستال براق يغرى بالالتهام، وموسيقى حالمة تنبعث من جميع الأرجاء. سألها عن ندى، نظرت إليه فى حزن، وأكملت ما انقطع من حوار.. ندى كانت على حافة الجنون، تستيقظ لتروى عن أجنحة فراشة تنبت لها ليلاً، وتطير بها وتحلق فى أماكن تلتقى فيها كل من تحبهم، تحكى أحداثا تتحقق بعدها بأيام، تلتقى الموتى، وتقابل من هم على البرزخ، تهمهم طوال اليوم بكلمات مبهمة، وتحدث أشخاصا غير موجودين. ضاق بها زوجها أكثر، وأمعن فى إيذائها، حتى جاء اليوم المشئوم، عاد زوجها يوماً ليجدها جثة هامدة أسفل منزلها، وتم القبض عليه، ولكن إحدى الجارات أنقذته بشهادتها، تلك الجارة رأت ندى فى ذلك اليوم وهى تقف فى الشرفة فاردة ذراعيها، وهى تغنى بصوت عال، ثم صعدت فوق السور ونظرت للسماء، وألقت نفسها. «الحب هو اللى موِّت ندى»، تصرخ نادية وتضحك بهستيريا، ودموعهما تسيل بغزارة.. خاف منها، لكنه حاول أن يهدئ من روعها، فراوغته. ذهبت إلى داخل الشقة لتأتى بسكين وتهدده بأنها سوف تطعن نفسها إن لم يخرج فوراً. وفى الليل، هاتفته معتذرة، وطلبت منه أن ينسى هذا الموقف الاستثنائى، يتواصل معها متناسياً.. تطلب منه أن يسمعها اللهجة الحنون التى صاحبت مكالمتهما الأولى، فيضحك، تصر فى إلحاح طفولى، فتزداد نوبة الضحك، تغضب، فيؤكد لها أنها لم تكن مفتعلة، كانت وليدة الموقف. يتفقان على اللقاء قريباً. ثلاثة أيام بلا أى تواصل، تطلبه فجأة وتطلب منه اللقاء بعد ساعتين. يتحرك، يصل فى موعده، يجدها تنتظره فى شوق، تسلم عليه وتلقى بالخبر، إنها سوف تغيب لمدة شهر ونصف الشهر خارج البلاد فى مأمورية عمل، لكن التواصل عبر الإنترنت لن يحرمها اللقاء. احتضنته وقبلته وانصرفت مسرعة تاركة إياه فى ذهول. تواصلا وهى خارج البلاد مرات قليلة لانشغالها بعملها، افتقدها بشدة، لكنه منطق الزمن الذى طالما تحمله. فوجئ بمكالمة تليفونية من القاهرة وهى تقول إنها لولا أنها قادمة حالاً من 18 ساعة طيراناً لقابلته الآن، وطلبت يومين للراحة. اتصل بها وكله شوق للقاء، لكنها لم ترد عليه لثلاث مرات، ولكنه ظل يلح حتى ردت. ■ من؟ - من؟! هل نسيتنى بهذه السرعة؟ يكفينى بُعدك كل هذه الفترة. أرجوكِ لا دعابات حتى أراك. ■ ترانى؟!! من أنت؟ - هل انت جادة فى سؤالك؟ ■ من فضلك أجبنى، وإلا سأنهى المكالمة. - سأسألك سؤالا واحدا فقط وبعدها سأنهى المكالمة: هل شاهدتى فيلم «بوحة»؟ ■ يا سيدى الفاضل، الأفضل أن تنهى المكالمة؟ - من فضلك أجيبينى وأعدك ألا أعاود الاتصال. ■ أوافق، شاهدته مرتين مع ابنتى. - ابنتك؟! ■ يا سيدى الفاضل لقد أجبتك عن سؤالك المستفز لمجرد أنى توسمت فى لهجتك الاحترام. من فضلك لقد انتهى الأمر. - ألستِ نادية؟ ■ لا يهم. - ولكنى متأكد من ذلك. ■ صدقنى، لقد طلبت الرقم الخطأ.. الخطأ جداً.