منذ أن تدلف إلي صفحات كتاب مصطفي نصر "سينما الدورادور" ستصاب بالدهشة والحيرة والحنين، وستكتشف انك لست أمام قصص قصيرة أو حكايات وحواديت مما تحكيها الجدات لأحفادها، و لست أمام كتاب نقد سينمائي، أو رواية كما هو مكتوب على الغلاف، فالكتاب ليس عادياً. ستري نفسك وتري طفولتك وتري أيام فقرك وشقاوتك وأيام تتمني أن تعود بك للوراء وتتوقف عندها للأبد، تلك الأيام التي كنت لا تحمل فيها أي هموم، مجرد طفل أو عيل صغير - بعد كل هذا التذكر - تبحث عن مقعد تركن فيه، واقرب مقعد لجيل كامل كان مقعد المقهى أو مقعد السينما. إن الحنين والشجن الذي يغلف الكتاب هو حنين كلنا عشناه وشاهدنا ومارسناه، وهذا الكتاب - ومنذ البداية - يعود بك طفلاً صغيراً - تحاول أن تهرب من يد أمك الذاهبة إلى السوق، كي تري ذلك الصندوق السحري الذي يطلق عليه السينما، أو أن تغافل والدك الذي تركك أمام فرشة الخضار كي تختلس النظرات وتشاهد عماد حمدي وفاتن حمامة وهو يقبلها قبلة طويلة أمامك وبذلك الحجم الكبير على الشاشة، فيصيبك الدوار، ويرتجف قلبك وتشعر انك ممثل مثلهما وتقلدهما في ارتداء الملابس و"تشمير" القميص لكنك لا تستطيع أن تنجح في تقبيل فاتن حمامة، لأنك في الحلم، وهذه ميزة السينما، إنها المرأة اللعوب التي جرينا خلفها جميعنا، ولم نستطيع أن نمسكها، أعطتنا كل الآمال والأحلام والطموحات والمجد والشهرة، ووقفت معنا وهي تمدنا بيدها فنكتشف أن اليد غير حقيقية وأن الابتسامة ليست ابتسامة لك وحدك، ولكنها للجميع، تنهي أو تخرج بعد ذلك لتكتشف أن ما تقرأه وما تشاهده هو كتاب مصطفي نصر "سينما الدورادور" إن كتاب "سينما الدورادور" يحيلك لمتفرج على نفسك أو على روحك، تتفرج على أفلام، جميعنا شاهدها، أفلام بالأبيض والأسود، لكنك هنا تشاهدها لأول مرة، لأن طعمها مختلف، حكايات أخرى تغلف هذه الأفلام، والتي نجح في صياغتها وعرضها بهذا الشكل كاتبنا الكبير مصطفي نصر الصعيدي ابن لإسكندرية. ومنذ دخولك الرواية، تعلم انك هارب من صعيد مصر، خلفك الثأر، فتسير في طرقات الإسكندرية سعياً وراء الرزق، وتتعلم أن لقمة العيش صعبة، لكن أمامك بحر الإسكندرية المفتوح يمدك بالأمل والحرية، وفوقك أمطار تهطل بغزارة، وداخلك قلب يبحث عن الذكريات والبدايات، إن أوراق الكتاب تحيلك إلى مجرد "عيل صايع" في السكك، مزوغ أو هارب من المدرسة، وتتذكر أول مرة تهرب من البيت، وأول مرة تدخل سينما، وتتذكر أحلى طبق كشري وألذ سندوتش طعمية وأشهى بطاطا ساخنة، وأول نفس سيجارة تدخنه، وأثمن زجاجة "قازوزة" وهي تخرج من الجردل المليء بالثلج، وأحدق كوب حمص الشام ساخن. أن الذكريات التي ترج باب قلبك وأنت تقرأ هذا الكتاب، كثيرة ومختفية في بئر عميق، إلا أن مصطفي نصر نجح في إخراجها بسهولة وعذوبة، تتجول بها داخل ماضيك، وتقابل بخطوات قدميك مبانٍ تمت إزالتها لكنك تشعر بها في غربال ومحطة الرمل والأنفوشي والدورادور والمنشية، لقد جعل مصطفي نصر من تلك الأيام، رواية تتجسد أمامك، فأنت لا تبحث في الرواية عن بطل أو بطلة أو مكان محدد، فجميعنا مر بما شاهده، لكنه الحنين للماضي كما قلت، يغوص به مصطفي نصر ليجعل منه إبداع خاص به وبذكرياته وبالإسكندرية، تلك المدينة التي لها سحرها الخاص، تشم رائحة البحر ورائحة اليود ورائحة الأسماك وزفارتها ودخان طهوها، وأماكن الورش والمخازن والميناء والبضائع والقمامة، وتتجول بين السينمات، تشاهد إسماعيل ياسين وهو يرتدي ملابس البوليس والجيش وتضحك من فمه الواسع، تختفي داخل طاقية الإخفاء مع عبد المنعم إبراهيم، وتهيم حباً مع عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحرم فؤاد، وتطارد اللصوص مع رشدي أباظة، وتتحول إلى فلاح بهرته أضواء المدينة مثل شكري سرحان، وتستمع لمحمد قنديل وهو يغني "تلات سلامات" و"يا حلو صبح"، وعندما تمل الأفلام العربية، تقع في غرام بعض الأفلام الأجنبية وتحلم بأن تكون وسيماً ومفتول العضلات مثل أبطالها العظماء: ستيف ماكوين وجرجي بيك وشارلز برنسون. ومنذ بداية صفحات الكتاب تجد النصيحة الأبدية "روح السينما وهي تنسيك همك"، فتتجمع أنت وأصدقاؤك وتكون المقابلة عند السينما، أول أفلام حياتنا شاهدناها في السينما، وتتحرك أمامك السينما بدرجاتها الثلاث - أولي وثانية وثالثة - على قدر النقود التي في الجيوب، فإذا كنت في الصيف وتعمل في إحدى الورش وجيبك مليان، فأنك تدخل الدرجة الأولي، أما إذا كنت مزوغ أو هارب من المدرسة، فطبعاً مفلس ومصيرك أن تكون ضمن جمهور الدرجة الثالثة، تذهب للسينما أي سينما ( التتويج أو رويال أو ركس أو ماجستيك أو الهبرا أو النيل أو بلازا أو الدورادور أو بارك أو محرم بك أو الجمهورية أو رتس أو البرويفاج)، وخلال كل ذلك تستنشق وتتجول فى جغرافيا عمرك وجغرافيا مدينة الإسكندرية، تشاهد أفلاماً مازالت عالقة في الذاكرة، تتذكر تلك الأيام الخوالي والطيبة، تدمع على طيبتك وسذاجتك وأحلامك البريئة، فلا تنسي إعلانات تلك الأفلام، ولا يمكن أن تنسي إعلان فيلم "حمام الملاطيلي" ومحمد العربي وشمس البارودي ملتصقان في الإعلان، فيسيل لعابك لرؤيتهما في هذا الموقف الساخن، تفرغ رغبته ومشاعرك ومراهقتك البريئة، تشعر انك في خمارة تحتسي كأس الفراق أو الضياع فتصيح في صحة أجمل لحظة في حياتي، ثم تقسم بأن الجنة لا يمكن أن تكون أجمل من كده، تتمني أن تقفز من مقعدك داخل فتحة فستان صدر هند رستم أو هدى سلطان أو تراقب فتحة فستان برلنتي عبد الحميد من الخلف في فيلم طاقية الخفاء، لكنك تقابل الشاب "عصفور – عبد المنعم إبراهيم" فتتمني أن تقتنص منه طاقية الإخفاء، وان تضرب توفيق الدقن، لكنه يسرقها منك ويصفعك بالقلم ويصيح فيك: العلبة دي فيها إيه؟، تتحسس صدغك وقفاك، فتقابل احد الحواة ويخبرك بالسر ويقول لك: لو انك قابلت عفريتا ولم تخفه، ثم استطعت أن تصفعه على قفاه، سيحترق العفريت ويتحول إلى رماد، ومن هذا الرماد تتحول الطاقية العادية إلى طاقية الإخفاء، تقف طوال الليل في زمهرير البرد تنتظر أن تقابل عفريتاً، ويأتي آذان الفجر ولا يظهر أي عفريت، فتقف حزيناً لأنك تعلم أن العفاريت لا تظهر بعد أذان الفجر، ولا تفقد حماسك وأحلامك، تقدم لك السينما كل الأحلام وكل المباح وكل المُحرم أيضاً، شاشتها السحرية تخطفك مثل الجنية وتلعب بك، تحولك لشاب وسيم ابن بهوات يقود افخر السيارات أو مجرم خطير يهرب من ليمان طره، أو تجعلك فتوة جبار أو إنسان رقيق فتستخدم قوتك للدفاع عن حقوق الغلابة، أو تاجر مخدرات في حارة بمبوزيا، ينبت في وجهك شارب خفيف وتقوم بوضع الكحل عليه كي تصبح كشكري سرحان في فيلم رد قلبي وتجد أحلامك الثورية، لكن الشارب المصبوغ يضيع مع أول شطفة ماء، تدخل بعد ذلك مرحلة الشباب وتصبح عمر الشريف ويوسف فخر الدين وشكري سرحان في فيلم " إحنا التلامذة "، تشتهي تحية كاريوكا وتحلم بها، تقابل حبيبتك الأولى والتي تشبه حتماً فاتن حمامة في فيلم نهر الحب أو أيامنا الحلوة، تتألم مثلها، وتخفي صورتها بين أوراق كراستك أو في درج مكتبك، تقبلها خلسة، تتمني أن تصير مريضاً كي تقع في حب ممرضتك، لذا تدخل المستشفى كي تقابل فاتن حمامة أو لبني عبد العزيز أو مريم فخري الدين، وعندما تشفى تخرج للطريق وتتلمس هواء بحيرة وصحراء مريوط، تشعر بأن هدى سلطان تنظرك على الطريق مع رشدي أباظة وشكري سرحان، لكنك لا تنسي النداء الشهير للعملاق ذكي رستم: إنت فين يا صابر؟ صابر يا ولدي؟، وتستمر الذكريات تتلاعب بك، فتجد نفسك تشرب كازوزة في سينما التتويج أو ماجستيك، ولأنك مفلس – دائماً - يأخذك شخص غني جاهل كي تقرأ له الترجمة، فيضايق المشاهدين ويقومون بالتعارك معك، وتأخذ علقة أنت وصديقك الجاهل لا تنساها، وتدخل سينما ترسوا تقابل الشواذ بها، وتلعن اليوم الذي أوقعك مع أمثالهم، فتشترك في معركة شديدة الضراوة داخل سينما الهبرا، وتقفز سور سينما النيل أو بلازا حتى تشاهد الفيلم الجديد لإسماعيل ياسين لان جيبك ليس به مليم احمر، بينما تضع رجل على رجل وأنت في انتظار دخول سينما محرم بك أو فؤاد لأنك في العيد وأصحابك من الأغنياء، بينما يحتك بك بائع فريسكا أو بطاطا أثناء دخولك سينما ركس أو الجمهورية. وتستمر في التجول فى خريطة ذكرياتك، وتتجول خلال هذه الصعلكة بين الأفلام الأجنبية، تصيح وتتقافز في مقعدك أنت وأصدقاؤك، تتقلب عندما ترى أول الأفلام بألوان الطبيعية، تنبهر بها وتنبهر بالممثلين، فلن تستطيع أن تنسي "وستيف ويفز" الشاب الوسيم والذي اشتهر بتمثيل دور هرقل الخارق والأسطوري، وتحلم بأن تكون عيونك خضراء مثله فتعصر فيهما البرسيم، فتعرف أن عيونك عيون مصرية سوداء، يقابلك "راعي بقر منتصف الليل" ودستان هوفمان وهو يلعب أول أدواره ويضحك على صديقه الذي اعتقد انه جاء كي يكتسح نساء نيويورك، بينما نيويورك هي التي تكتسح الاثنين، كي يموت دستان هوفمان على ذراع صديقه. تتألم وتتوجع وتحب وتحلم مثل هؤلاء الأبطال، تصير كل شخص فيهم ويصيرون هما أنت – وحدك – بعد ذلك تعود لمنزلك كي "يرقعك" والدك علقة ساخنة أو تضربك أمك بالشبشب لأنك صرفت نقود الدرس على السينما الملعونة، تدخل غرفتك وتفتح كتابك فلا تجد صورة فاتن حمامة، فتبدأ في البكاء على ماضيك كله. لقد شاهدنا هذه الأفلام جميعنا معاً، وارتدنا تلك السينمات معاً، لكن مصطفي نصر جعلها تجربة خاصة، بها خصوصية مكان وخصوصية أفكار وخصوصية إبداع، ورؤية خاصة به هو وحده. سطور هذه الرواية السينمائية تعيدك لتلك الفترة، بما فيها من مذاق خاص "لفترة الستينيات" سواء على مستوى الإسكندرية أو على مستوى الوطن كله، إنها أيام المجد الطفولى والأمجاد الثورية والبدايات الحلوة لنا، ونحن جميعنا نشتاق إليها ونشتاق لأيام بالأبيض والأسود، إلا انك تستيقظ على إغلاق تلك السينمات وتحولها إلى جراجات أو مولات أو صالات أفراح أو عمارات شاهقة، تحزن على الماضي البائس السعيد والذي تتمنى أن تتوقف عنده وتتذكر أول مرة دخلت فيها إلى السينما، لأنك – فقط – بتحب السينما .- ونحن أيضا.