من أجلِّ ثمرات العبادة الموصولة بالله تعالى -على الإطلاق- أنها تملأ نفس صاحبها بالاستمرار، والديمومة، والمواصلة، والمتابعة، والأداء الكامل المتقن لأركانها، وسننها، وهيئاتها، مع الحذر من الفتور، والانقطاع، والتوقف، ومع الحذر كذلك من الإخلال بهيئاتها، وسننها، وآدابها، بل مع الترقى فى معارج الإتقان المتزايد لها، الناشىء من طول المعايشة، وتمام الإحسان فى الأداء، حيث تغرس العبادات الحية فى النفس قيمة الاستمرار فيها طوال العمر، والمواظبة عليها فى ذاتها، وفى آدابها وسننها، لأنها من أشرف مقاصد الحياة، ولأنها شريان النور والبصيرة فيها، فتتولد من ذلك كله قيمة أصيلة فى النفس، وهى قيمة التعلق بالكمال فى كل شىء، حيث تتحول قضية الاستمرار والدوام والمواظبة من سِمَةٍ خاصة بالعبادة، إلى أن تتسع وتتحول إلى منهج حياة، فإذا بالعبادات قد خلعت على النفس فكرة الأداء المتقن المحكم لكل شىء، والمداومة والمواظبة فى كل شىء، والحذر من الخلل والانقطاع فى كل شىء، من شئون الدين والدنيا، ومن أمور حركة الحياة، وتسيير المعيشة، ومن أمور القراءة والتعلم والفكر، فكما أن الإنسان يتعايش مع العبادات بنَفَسِ المحبة والإتقان والإكمال لأعدادها وهيئاتها وشروطها وأركانها، فإنه بالتدريج يستلهم هذا المعنى فى أعماله، وتجاراته، وإدارته لشركاته، ونهوضه بمؤسساته، وأهداف حياته كلها، ويرتفع عن نفسية الذاتية والأنانية، التى تجعل فكره ومشاريعه كلها تتمحور حول ذاته هو، إنه يتعلم من العبادات فكرة الإكمال، والإتمام، والإتقان، والاستمرار، وعدم الملل والفتور، وأنت ترى هذا المعنى فى قوله تعالى: «فمنْ شَهِدَ مِنْكم الشَّهرَ فلْيصُمْه ومَنْ كانَ مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» (سورة البقرة، الآية 185)، فهذه قضية العبادة، والأمر بها، ثم تأتى أهدافها ومقاصدها وثمراتها بعد ذلك، فيقول سبحانه بعدها مباشرة: «يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُم العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة»، فما معنى: «ولتكملوا العدة»؟ معناها: شرع الله تعالى تلك الفريضة لكى تمتلئ نفوسكم ترقباً وتطلعاً وتشوفاً إلى إكمالها، وإتمامها، وأدائها كاملة غير منقوصة فى أعدادها ولا هيئاتها وآدابها، فغرس بهذا كله فى النفس قيمة الإكمال، والإتمام، ولا تزال هذه القيمة -مع الحضور والربانية والصدق فيها- تتسع حتى تتحول نفسية هذا الإنسان إلى نفسية تعشق الكمال، وتهيم به، حيث كان، فلا يدخل بعدها أبداً فى مشروعٍ، ولا عملٍ، ولا دراسةٍ، ولا علاقةٍ، ولا إدارة عمل أو مؤسسة، أو أى منحى من مناحى الحياة، إلا وهو مشبّعٌ بفكرة الإكمال، والإحسان، والإتقان، فيُصْنع بذلك الإنسان النبيل، الذى يعمر الكون، ويتركه بعد موته لمن بعده عامراً، ويهيم بفكرة التنمية المستدامة، والحفاظ على الموارد لتبقى لمن بعدنا، ومثلها قوله تعالى فى شأن الحج: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثةِ أيَّامٍ فى الحَجِّ وسَبْعةٍ إذا رَجعْتُم» (سورة البقرة، الآية 196)، ثم يقول سبحانه بعدها: «تِلْكَ عَشَرةٌ كامِلَة»، مع علم الجميع بأن ثلاثة وسبعة تساوى عشرة، لكنه سبحانه يحب لكلمة الكمال أن تملأ سمع الإنسان وقلبه، ويغرس من خلالها مفهوم الكمال والإتمام فى نفس الإنسان، حتى يعشق الكمال ويهيم به، ويتحول فى جميع شئون حياته إلى القيام بفكرة الإكمال، والديمومة، وترك الأمور على أحسن صورها، (وللحديث بقية).