كشف النبى صلى الله عليه وسلم عاقبة العالم الذى انتفع الناس بعلمه فنجوا، ولم ينتفع هو بعلمه فخاب وخسر، فقال فيما أخرجه الشيخان: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار، فتندلق أقتابه (أى أمعاؤه) فى النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أى فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». إنها صورة شديدة الوقع على النفس الحية، يقدمها هذا الحديث النبوى الشريف لأولئك الذين يحسنون رصف الكلام ويمارسون شكل الدعوة دون حقيقتها، فيأمرون الناس بالخير وينسون أنفسهم، فظاهرهم أمام الناس دعاة، وحقيقة حياتهم الخاصة تضييع ولهو ولعب، فيا حسرتهم يوم تبلى السرائر! وها هو النبى صلى الله عليه وسلم يقدم لنا صورة أخرى للدعاة الذين يعظون ولا يتعظون، ويأمرون بالخير ولا يفعلونه، فيقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وغيره: «مررت ليلة أسرى بى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: مَن هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». ويقينا لن تقع الموعظة موقعها اللائق من قلوب الخلق ما لم يكن الواعظ مخلصاً عاملاً بما وعظ فى ذات نفسه، وعندئذ يفتح الله قلوب الخلق لموعظته، وكم من محسن للحديث وماهر فى الوعظ ومبدع فى انتقاء كلماته وموضوعاته، لا تتشرب القلوب مواعظه. وقد قيل: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت فى القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان، وقال الحسن رحمه الله، وسمع رجلاً يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرق عندها، فقال له: «يا هذا، إن بقلبك لشراً أو بقلبى»، وقال مالك بن دينار: «قرأت فى التوراة: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر (أى قطرات الماء) عن الصفا (أى الحجارة الملساء)»، وصدق القائل: مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى تعيها نفسه أولا يا قوم من أظلم من واعظ خالف ما قد قاله فى الملا أظهر بين الناس إحسانه وبارز الرحمن لما خلا قال عيسى ابن مريم: «إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين، وأنتم مقيمون مع المتحيرين؟ إنما يبتغى من العلم القليل، ومن العمل الكثير». أسأل الله أن يوفقنا إلى الخير وأن يجعلنا من المخلصين.