لم تحظَ واقعةٌ بعدد من المتناقضات كتلك التى امتازت بها واقعة «دنشواى» (1906)، ولم تشهد مصر واقعة تمكن فيها البسطاء من فضح عورات الكبار مثلها. مؤكد أنك تعلم تفاصيل الواقعة التى اتهم فيها 92 من أبناء قرية دنشواى بقتل أحد الجنود الإنجليز، تم إثبات التهمة على 36 منهم، وقضت المحكمة بإعدام 4 من المتهمين وتفاوتت الأحكام على الآخرين ما بين السجن والجلد. أول المتناقضات التى تجدها فى هذه الواقعة تتعلق بهيئة محاكمة الفلاحين المساكين من أهالى قرية دنشواى، والتى تشكلت من عدد من كبار المتعلمين المصريين التى شرعت تحاكم مجموعة من المصريين البسطاء. ترأس المحاكمة بطرس غالى وأحمد فتحى زغلول، ومثّل الادعاء فيها واحد من أشهر المحامين المصريين -فيما بعد- وهو إبراهيم الهلباوى. بطرس غالى -بعد هذا الحدث بعامين- هو رئيس وزراء مصر، أما أحمد فتحى زغلول فهو الشقيق الأصغر لسعد باشا زغلول الذى قاد المصريين -بعد واقعة دنشواى ب13 عاماً- فى ثورة 1919 لتحرير مصر من الاحتلال الإنجليزى. أحمد فتحى زغلول كان متعاطفاً مع الإنجليز، وكان صديقاً صدوقاً للورد كرومر. لم يكن أخوه الأكبر «سعد» أقل تعاطفاً مع المحتل من أخيه خلال مرحلة معينة من مراحل عمره، فقد تزوج السيدة صفية ابنة مصطفى باشا فهمى الذى ترأس مجلس وزراء مصر وكان أكبر عميل للإنجليز فى بر المحروسة، لكن «سعد» غير وجهته وتوجهاته بعد ذلك فانحاز إلى الجماعة الوطنية وقادها فى رحلة استقلال مصر وتحريرها من الاحتلال. تتسع مساحة التناقض عندما تنتقل إلى شخصية «إبراهيم الهلباوى» ممثل الادعاء فى محكمة «دنشواى» فقد طالب خلال المحاكمة بتوقيع أقسى العقوبات على الفلاحين الغلابة إلى حد أن وصفه شاعر كبير مثل حافظ إبراهيم ب«جلاد دنشواى». وقد عاش بعد هذه الواقعة بعقدة يمكن وصفها ب«عقدة دنشواى»، واجتهد بقية حياته فى تبييض صفحته أمام الجماعة الوطنية. فى حين وقف «الهلباوى» مسانداً لبطرس غالى قاضى دنشواى فى سحق الفلاحين، نجده يقف ضده متنمراً بعد 4 أعوام من الواقعة (1910) حين تولى الدفاع عن المتهمين بالوقوف ضد الخطوة التى اتخذها بطرس باشا غالى خلال رئاسته للوزراء بإعادة العمل بقانون المطبوعات ومصادرة حرية الصحافة. ليس ذلك وفقط فقد اختاره إبراهيم ناصف الوردانى -دون غيره من محامى مصر- كمحامٍ يدافع عنه بعد اغتياله لبطرس غالى عام 1910، واشترط عليه الوردانى وقتها أن ينتقد محاكمة دنشواى، فاستجاب له «الهلباوى». والأعجب أن «الهلباوى» كان المحامى المدافع أيضاً عن قتلة السير «لى ستاك» وهو أمر أثار حفيظة سعد باشا زغلول ضده، رغم أن السردار الإنجليزى كان واحداً من أشد المدافعين عن رفع يد مصر والحكومة المصرية عن السودان، وهو ما كان يرفضه «زغلول» بشدة!. البسطاء يفضحون تناقضات الكبار.. تكاد هذه العبارة تلخص معادلة أساسية من المعادلات التى تحكم حركة التاريخ. فالحوادث التى يذهب ضحيتها البسطاء غالباً ما تؤدى إلى كشف العديد من التناقضات فى أداء الكبار، وفضح عوار تفكيرهم، وأنهم يتحركون فى الأغلب مدعومين بفكرة المصالح أكثر من المبادئ. وكذلك كانت حادثة دنشواى من ذلك النوع من الحوادث التى تمكّن فيها البسطاء من فضح عورات الكبار.