مع بداية يوليو الجاري, تدخل ذكري حادثة دنشواي التاريخية, عامها العاشر بعد المائة, لتروي للعديد من الأجيال الجديدة, حكايات دامية عن تلك المذبحة التي جرت يوم6 يونيو من العام1906, عندما قدمت الحكومة المصرية92 فلاحا من أبناء دنشواي الي المحاكمة, بتهمة القتل العمد لضابط من جيش الاحتلال الانجليزي, ثبت وقتها أنه مات متأثرا بضربة شمس, وما انتهت اليه تلك المحاكمة الهزلية من أحكام, تراوحت ما بين الشنق لأربعة من الفلاحين, والجلد والأشغال الشاقة المؤبدة للعدد الباقي في قائمة الاتهام. كان حادث دنشواي أحد دروس المطالعة, التي درسها أبناء جيلي في المرحلة الابتدائية, ولعل كثيرين يتذكرون اليوم, تلك الصور التعبيرية المصاحبة لدرس القراءة الشهير, للضابط الانجليزي وهو يطلق رصاص بندقيته, باتجاه أبراج الحمام, وكيف اندلعت الأحداث بعد ذلك بين الفلاحين والضباط الأربعة, بعد سقوط أم صابر مضرجة في دمائها, واشتعال النيران في أجران التبن. في العام1963 قرر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر, إنشاء متحف قومي في قرية دنشواي التابعة حاليا لمركز الشهداء بمحافظة المنوفية, ليضم تراث تلك الحادثة التي جرت, ويروي للأجيال الجديدة, كيف سالت دماء المصريين لأهون الأسباب, وبأحكام قضائية سعي الاحتلال وقتها, لأن يسبغ عليها نوعا من الشرعية, عبر دق الأسافين بين الشعب المصري وقضاته, والإيحاء بأن الذين أصدروا تلك الأحكام القاسية علي الفلاحين, لم يكونوا من الأجانب, وانما قضاة مصريون!. وتكاد تجمع معظم الروايات التاريخية, علي أن المحكمة التي عقدت في23 نوفمبر من العام1906, وأصدرت أحكام الإعدام بحق الفلاحين, كانت برئاسة بطرس باشا غالي, الذي كان قائما حينذاك بأعمال نظارة الحقانية, وتتجاهل تلك الروايات مثلا, المحكمة المخصوصة التي أنشأها الانجليز منذ العام1895, والتي كانت تختص بنظر القضايا التي كان يتهم فيها مصريون بالاعتداء علي الإنجليز, وهو ما يعني بوضوح أن الهدف الرئيس من تشكيل محكمة جديدة في حادث دنشواي, كان يعني بث مزيد من الاحباط في نفوس الشعب المصري, الذي كان يتوق للحرية, خاصة وان المحكمة ضمت بين هيئتها الي جانب بطرس غالي, الذي شغل فيما بعد, منصب رئيس وزراء مصر, ووافق علي تمديد امتياز قناة السويس أربعين عاما أخري, أحمد فتحي زغلول باشا, الأخ الأصغر للزعيم الراحل سعد زغلول, ومدعي النيابة إبراهيم الهلباوي باشا, الذي يسجل له التاريخ وصفه للفلاحين من اهالي دنشواي, في جلسات تلك المحكمة الهزلية بالسفلة أدنياء النفوس, هؤلاء الذين قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت, وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين, بعد أن مضي علي الإنجليز بيننا خمسة وعشرون عاما, ونحن معهم في إخلاص واستقامة!. قاطع سعد زغلول الذين كان يدرس القانون في فرنسا وقت التئام تلك المحكمة أخاه احمد فتحي زغلول, وقتل بطرس غالي في عز الظهر, علي يد إبراهيم ناصف الورداني في20 فبراير من العام1910, عندما سدد له الأخير ست رصاصات, اخترقت منها اثنتان رقبته ليسقط صريعا في الحال, ليفاجأ وهو يمثل أمام المحكمة بإبراهيم الهلباوي مدافعا عنه, وقد كان الهلباوي في حقيقة الأمر يدافع عن نفسه, من تلك التهمة التي ظلت تكلله بالعار حتي وفاته, وهي مشاركته في محكمة دنشواي. ولعل كثيرا من الذين يعيشون بيننا اليوم, ويتحملون مواقع القيادة في العديد من المؤسسات, يدركون قبل فوات الأوان, أن ذاكرة المصريين لا تنسي, وأن التاريخ لا يرحم.. ولو بعد حين.