"أنا شغال شغلانة أنبياء.. زي سيدنا داوود.. بس الفرق إن ربنا كان ملين له الحديد". تلك هي عقيدة "سيد علي محمد" نافخ الكير، لذا لم يفكر في الامتهان بمهنة أخرى طيلة 42 عاما جلس خلالها خلف النار غير مبال بلهيبها. عمته الصعيدى والصديرى وبشرته الذهبية تدل على نسب عائلته الممتدة جذورها لصعيد مصر، جميعها عملت فى الحديد أبا عن جد "من وأنا عندى 8 سنين شغال فى الكير.. العيل الصغير كانوا يقلولوا هنلسعك بالنار.. لكن طلعت لقيت أهلى شغالين فيها فعمرى ما خفت منها"، 13 سنة قضاها فى المكان نفسه، تحت البوص ذاته، بعدما ترك مقره السابق بدار السلام "طول عمرى قاعد كدة فى الشارع". "بسم الله توكلت على بابك يا كريم" مع دقات العاشرة يبدأ بها عم سيد يومه كل صباح، عقب خروجه من منزله الضئيل بصفط اللبن -المكون من غرفة وصالة- ثلاثة جنيهات يدفعها للتوك توك هى سبيله ليظل جالسا القرفصاء فى عشته حتى غروب الشمس. حبات من الفحم وحجرين وألة بدائية هى أدواته، الألة هى "الكير البلدى" المكون من قطعة كبيرة من خشب الجازولين وعمودان من الحديد "الوقاف"، يمسك الحديد الخام ويدسه فى الفحم الموجود أسفل حجرين، ثم يجذب طرفا الألة الحديدية لتقوم بعملية صنع تيار هوائى، والحجرين مهمتهما عدم تصريف ذلك الهواء. تنهمر من جبينه حبات العرق كالمطر بينما يعتبره "سيد" علامة رضا من الله على رزقه الواسع، لحظات وتظهر العلامة بصدور صوت فحيح عندها يستحيل لون الفحم الأسود ذهبيا، فتخرج قطعة الحديد لينة "ساعتها بحس إنى ماسك ابنى الصغير" على قدم ونصف يبدأ فى بتشكيلها بوضعها بين مطرقته والسندان -المسنود على جذع شجرة راسخ فى الأرض- فتخرج شرارا تزيد من ثقوب بنطاله المهترىء، بعدها توضع القطعة فى الماء، لحظتها تبدو فى أبهى صورة غير الذى كانت عليه. يأتيه أحد الحدادين للحصول على طلبية من الحديد المسلح ويعطيه أجره، يُقبل الأموال بيده المتفحمة التى "يحبها الله ورسوله" شاكرا فضله عليه، القطعة الواحدة يصنعها ب 40 قرش فقط، مسامير الكهرباء ومواسير السباكة وحديد البويات ورؤوس الفؤوس أهم منتجاته، يرفض صناعة الأسلحة حتى لا يؤذى أحدا. بين الحين والأخر يجول بعيناه الخضراوان فى النار متذكرا وليدته الصغيرة -ابنة الأثنى عشر عاما- المفقودة منذ ثلاثة أشهر، "من ساعة ما البت مشيت وماليش نفس لحاجة" يقولها بحزن أثناء إشعاله سيجارة بقطعة خشب موجودة وسط الفحم تحول لونها إلى الاحمرار من شدة الحرارة، تزوج مرتين، أولهما وهو ابن السادسة عشر، وله من الأبناء تسعة، تجلس بجواره "مديحة" زوجته الثانية، تناوله كوب الشاى من آن لأخر، براد الشاى وبعض حبات السكر هما أدواته بجانب "عدة" الشغل، يمسك ولده الشاكوش بكفه الصغير محاولا تقليد الأب الكادح بالطرق على سلسلة صغيرة عثر عليها وسط التراب. . عمله ليس له مواسم "ربنا بيفرجها يوم أه وأسبوع لأ.. بس لازم أجى يوماتى وأرمى حمولى على الله"، 3 سنوات لم يعمل فيها بعد إجرائه ثلاث عمليات إحداها كانت لنزع 17 حصوة على الكلى "بس ربنا رايد إنى ممدش يدى لحد" فحكمة الرجل الصعيدى هى "ربك عمره ما خلق فم من غير ما يطعمه". أمنيته الوحيدة هى زيارة الكعبة وقبر الرسول "عشان أحس إنى أتولدت من جديد"، يحلم عم "سيد" أن ينجيه الله من نار الأخرة، فقد لازم نار الدنيا طيلة حياته.