طرق وعرة، منحنيات خطرة، السيارات، وجهاً لوجه، ولولا عناية الله لسجل هذا الطريق أكبر نسبة حوادث.. نفق طوله يجاوز ال5000 متر، تعدو فيه السيارات مُسرعة، داخل النفق سيارتان، إحداهما تقل عددا من موظفى الهلال الأحمر المصرى، تكاد سيارة أخرى تلتصق بها، يتكدس داخلها أكثر من 30 شابا وفتاة، يرتدون زيهم الأحمر المعتاد، تتوسطهم دائرة بيضاء، داخلها «هلال»، جاء بعضهم من أقاصى الصعيد، والآخر من غرب الدلتا، وقليل من القاهرة، قطعوا مئات الكيلومترات لتحقيق غاية أسمى، هى الاستعداد لمواجهة الخطر، تمهيدا لحصولهم على لقب «الفريق الوطنى لمكافحة الكوارث»، تحت شعار «الإنقاذ فلسفة.. والإنسانية فكرة لا تموت». وتزامناً مع نزوح آلاف الأفارقة المقيمين فى ليبيا عقب ثورة فبراير التى أطاحت بمعمر القذافى، نزح إسلام محمد، هو الآخر، من القاهرة حتى بلغ الحدود الليبية، وتحديدا فى منطقة السلوم، بعدما دعت السلطات المصرية الهلال الأحمر للتدخل ورعاية الأفارقة الذين نزحوا هربا وهلعا من جحيم ليبيا. بجسده النحيل، وقامته القصيرة، كان يتجول داخل معسكرات اللاجئين الأفارقة، يعبث فى شاربه قليلا، يرقب بعينيه الوافدين من منفذ السلوم إلى منطقة اللجوء الآمنة، يُفند وجوههم ثم يبادر بسؤال أحدهم بالإنجليزية «فيه مصريين هربوا معاكم من ليبيا؟»، فيُجيبه نافيا، فتزداد حيرته، يسارع بالاتصال عبر تليفونه المحمول، فتجيبه رسالة صوتية باللهجة الليبية «هذا الخط مغلق.. رجاء الاتصال لاحقا». فرفيقة عمره وطفولته، شقيقته كانت موجودة فى ليبيا وقت الثورة، اشتعل كل شىء فجأة، وانقطعت الاتصالات بينهما، فكان أمام خيارين، إما الانشغال بها أو التفرغ للمصابين واللاجئين، فاختار عمله، واكتفى بالدعاء أن تعود سالمة. فى إحدى ليالى عام 1859، مرقت تلك المركبة التقليدية، التى تجرها الأحصنة، عبر شمال إيطاليا، كان هنرى دونان، ذاك التاجر من مدينة جنيف السويسرية، ذاهبا لمقابلة نابليون الثالث، لكن عينيه جحظتا وكادتا تتركان مكانيهما، وقلبه أسرع فى الخفقان، وقتما تنامى إلى مسامعه صوت الطلقات النارية، رأى بعينيه جنودا يسقطون تباعا، ما بين جريح وقتيل، المعركة بين الجيشين النمساوى والفرنسى، أمر سائق العربة بالتوقف، ترجل من عربته، هرول صوب أحد الجنود، الفرق الطبية عجزت عن مواكبة الموقف، أما بقية الجنود فكان لديهم ما يكفيهم من أجل إنقاذ أنفسهم والعودة إلى خطوطهم.. داخل إحدى الكنائس بالمدينة المنكوبة، جمع «دونان» المصابين جميعا، حاول علاجهم بمعاونة من أهالى المدينة، ومن هنا طرأت عليه فكرة تأسيس جمعيات لإغاثة المتضررين، وأنشأها «دونان» هو وأصدقاؤه، لتحمل اسم «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» ضمت حتى الآن 180 جمعية وطنية، من ضمنها جمعية الهلال الأحمر المصرى. وفى عام 1896، انطلقت من القاهرة قوات «مصرية - بريطانية» مشتركة بقيادة «هربرت كتشنر» تجاه السودان لإخضاع السودان وإعادته للسيادة المصرية بعد انفصاله عنها، وانتهت الحرب عام 1898 وتركت أيتاما وأرامل وجرحى للجيش المصرى؛ لهذا تحرك المصريون، وعلى رأسهم الإمام الشيخ محمد عبده، تجاه «العمل الإنسانى» لتكوين لجنة خاصة -قوامها رجال القضاء وأهل الثقة من كبار الأغنياء- لمساعدة جرحى الجيش وعائلات قتلاهم، لكنها لم تمكث طويلا بسبب قلة الأموال، وبعد مرور 13 سنة أصبح الحلم المصرى بإنشاء جمعية أهلية تعنى بالمجالات الإنسانية والإغاثية حقيقة، وجاء ميلاد جمعية الهلال الأحمر فى دار جريدة المؤيد على يد صاحبها الصحفى الشيخ على يوسف. 7 مبادئ يعمل الهلال الأحمر على أساسها: «الوحدة، العالمية، الإنسانية، عدم التحيز، الحياد، الاستقلال والخدمة التطوعية»، وذلك وقت الكوارث والأزمات، حيث يعمل فرد الهلال الأحمر كل الأعمال التى تخطر والتى لا تأتى على البال، تارة تجدهم «عتّالين» يحملون على أكتافهم المؤن الغذائية من على سيارات النقل، ويقطعون عدة أمتار حتى يصلوا بها آمنة مستقرة صوب خيمة الأغذية، كل هذا كان يقوم به «إسلام» ورفاق العمل التطوعى من أجل توفير كافة سبل الراحة للمتضررين، لكنه وقتما يشرد بذهنه قليلا كانت صورة شقيقته تلوح فى الأفق، «يا ترى انتى فين يا أختى؟»، حتى دق جرس هاتفه المحمول فى إحدى ليالى مارس، رقم قاهرى، أجاب فى لهفة، فوجد صوت شقيقته يسرى عبر الهاتف «أنا الحمد لله كويسة»، سألها عن كيفية هروبها من ليبيا، فأوضحت له أنها هربت إلى تونس ومن هناك استقلت طائرة برفقة زوجها إلى القاهرة، هم من الهموم خفّ من على كاهل «إسلام» وأضحى أمامه همّ واحد، وهو رعاية المتضررين الأفارقة النازحين من ليبيا، «الهلال الأحمر» بالنسبة لخريج كلية الزراعة ليس وظيفة يمتهنها من أجل اقتناص فُتات الأموال، بقدر ما هو شعار ومسئولية وقعت على عاتقه. دقت السابعة صباحا، خرج المتدربون من «ميس» الإفطار، وتأهبوا لأول يوم لهم، كان يوما معلوماتيا حول نشأة الهلال الأحمر، فيما انهمك محمد البدوى -مسئول الاتصالات فى الجمعية- فى تعليم المتدربين كيفية استخدام الهاتف اللاسلكى. بعد عناء استمر 5 سنوات فى كلية الهندسة تخرج «محمد حسن»، كان فرحا بشهادته، عمل بها فى إحدى الشركات الخاصة، لكن ما لبث أن اتفقت الشركة التى يعمل بها مع جمعية الهلال الأحمر المصرى على إنشاء مخازن للإغاثة، حدث فى ذات التوقيت سقوط صخرة الدويقة على سكانها، ذهب «حسن» مع الفريق، فقط للمراقبة، وتقديم العون قدر الإمكان، ورأى بعينه كيف ينتشلون الجثث مع الأهالى، ويقدمون الدعم النفسى للأسر المنكوبة، ليصبح الهلال الأحمر جزءا من حياته، ويرتقى فى المناصب حتى يصير مدربا دوليا ومستشارا هندسيا للمياه والإصحاح، يقول: «ما أحلى أن ترى الفرحة فى عيون المتضرر بعد معاونتك له». 12 ألف متضرر قابعون على منفذ السلوم البرى، يحملون جنسيات أفريقية مختلفة، هذا من تنزانيا، وآخر من جنوب أفريقيا وثالث من تشاد، اللغة الرسمية التى كان يتواصل بها «إسلام» معهم كانت الإنجليزية، حان موعد الطعام، ومعه تظهر المشكلة، يصعد «إسلام» وبقية أصدقائه على تلك السيارة المحملة بالمعونات الغذائية، يفتحون كل كرتونة، يأخذون منها وجبة واحدة كعينة اختبار، يتأكدون من سلامتها، ثم يبدأون فى التوزيع.. هم 17 شخصا فقط، مهمتهم خدمة 12 ألف متضرر: «لما كان الناس بيتكالبوا علينا كنا بنتصل بقائد الجيش فى المنطقة يبعت لنا عساكر لتنظيم الطوابير».. الانتظار طال، أكثر من 4 أشهر قضاها «إسلام» على الحدود المصرية الليبية، دون أن يرى أطفاله، أو حتى زوجته: «لولا التليفون كان زمانى اتجننت».. يعدل نظارته الطبية، وعيناه تترقرقان بالدموع، فخور هو بردائه الأحمر الذى يرتديه وبتلك الشارة التى تُحمله يوما بعد الآخر المسئولية: «حياتى كلها بقت (هلال).. مفيش أحسن من إنك تساعد حد مريض.. أو محتاج مساعدة». محمد عبدالله، رئيس الإغاثة بالجمعية، يؤكد أن «الهلال» مؤسسة مستقلة، تعمل بالتنسيق مع الحكومة المصرية، والهدف الأسمى الذى يسعون إليه هو إنقاذ الإنسان أيا كان معتقده أو فكره فى الأزمات، يؤكد «عبدالله» أن المورد المالى الوحيد للجمعية هو التبرعات، علاوة على الدعم من المؤسسات الدولية، مثل مؤسسة الصليب الأحمر الدولى والاتحاد الدولى لجمعيات الصليب والهلال الأحمر. التطوع بالنسبة للمُتدرب محمد كريم رسالة يحملها على عاتقه، الشاب القادم من قنا خصيصا من أجل هذا التدريب، عمل مندوبا للمبيعات، فى إحدى شركات الاتصالات، لكنه وجد خلاصه فى الهلال الأحمر. مشاكل بلاده، والسيول التى تغرقها سنويا، كانت سببا فى أن يصبح ناشطا بالجمعية: «جاى أتعلم عشان لما تحصل سيول عندنا أعرف إزاى أتعامل معاها». ما بين نصب الخيام والإسعافات الأولية للمتضررين، إلى إقامة نقاط مياه الشرب ودورات المياه، تدرب المتدربون، تم تقسيمهم إلى 4 فرق، صار التنافس سمة غلبت على أدائهم، من أجل الارتقاء.. المسافة والزمن حائلان أمامهم دائما، حاولوا التغلب عليهما. تقلد محمد صلاح منصب مدير العمليات فى اليوم الأخير من التدريب، ساردا وشارحا مراحل الاستعداد للكارثة: «إسعافات أولية للمتضررين، إخلاء المصابين من المكان، الفحص الطبى للمتضررين وتسجيلهم وتسكينهم فى خيام الإعاشة، صرف الأدوية الخاصة لهم والملابس والأدوات الشخصية، صرف الأغذية»، وأخيرا السهر على راحتهم، منتظرين أوامرهم، مستجيبين لطلباتهم.