100 خطوة فقط هى ما تفصلك عن منزل الحاج أنور سلطان، صاحب الأربعة وسبعين ربيعا، الذى سكن بمنطقة «البويرة» فى الخليل، غير أن إغلاق المحتل الإسرائيلى للمنطقة مع حلول انتفاضة عام 2000 كانت بداية لمعاناة يتكبدها منزل «سلطان» ومعه مجموعة من المناضلين ضد الصلف الإسرائيلى. على طريق وعر غير ممهد، تقضى السيارة نحو ساعة إلا الربع للوصول لمنزل الرجل السبعينى وأرضه الزراعية، فى الخلفية تظهر الإضاءة الصادرة من مستوطنة «كريات أربع»، أول مستوطنة بالضفة الغربية، أسسها «موشى ديان» عقب حرب النكسة فى 1967 «ساعتها قال للفلسطينيين دى مجرد مكان لمعسكر جيش مؤقت، بعدها بدأوا ينتشروا» يقولها «سلطان» معلم الأجيال ل 40 سنة فى التربية والتعليم، وعضو الاتحاد العام للإسكان الفلسطينى بالخليل، فى إشارة منه إلى بداية الأزمة، قبل أن يضيف بوجه يكسوه الألم «لما اتسكنت المستوطنة بدأت المعاناة تزيد، لدرجة إنهم استولوا على أراضى إسكان الموظفين، وكل فترة يقطعوا أشجار العنب ويجرفوا الأرض، بينما السكان صامدون صمودا أسطوريا». وعلى الرغم من سُكنة جيران السوء، قائمة الممنوعات ليس لها حصر، فالقدر فى «البويرة» يخيرك بين مواجهة قوات الاحتلال أو التخاذل، فيما قرر الحاج «سلطان» أن يبقى شوكة فى حلق الصهاينة، ممنوع تمهيد الأرض «بيتحججوا إن دى أرض مهملة ومش محتاجة بنية تحتية ومصاريف ع الفاضى»، ممنوع دخول المياه، ممنوع عمل بير لتجميع مياه المطر، ممنوع تركيب شباك إلا بإذن حكومى، حتى الطريق الوعر يُغلق كل فترة وعندها يكون السير من خلف الجبل فى مدة تستغرق ساعتين بينما المسافة المنطقية للوصول مباشرة من طريق المستوطنة هى دقيقتان. عائلته معروفة بالصمود، الجد حُكم عليه بالإعدام على زمن المحتل البريطانى، لكنه عاش 104 أعوام، وراحت بريطانيا، استلم ابنه الراية -والد أنور- اعتقل فى عام 1982 وكان عمره وقتها 84 سنة وظل 44 يوما داخل حجز انفرادى، بسبب إصراره على رفع القضايا للتمسك بحقه فى الأرض، وخرج الوالد دون تنازل، فى الوقت الذى يكمل فيه الرجل المسير، بقلب واثق، وبعين تغرورق بالدموع وصوت قوى يؤمن بأن «الأرض مقدسة كالقرآن». ترك «سلطان» التعليم وأصبح مزارعا «ولدت هون وطول عمرى عايش هون ومش ممكن أسيب أرضى»، منتجات أرض الرجل السبعينى تثبت أن «العنب» من طعام أهل الجنة، حسب تعبيره، بألوان مبهجة «المكان هنا مشهور إنه أفضل أماكن العالم لزراعة العنب.. لكن اليهود مصرين يقطعوا الشجر»، يصمم الرجل على الحصول على حقه بالقانون، يطارد الصهاينة فى محاكمهم «المستوطنين هما القضاة وبيلبسوا ملابس عسكرية.. بس ولو.. هنجيب حقنا بشتى الطرق»، التشاؤم كلمة خارج قاموسه، يُقر أن «اليهود نفسهم طويل»، لكنه عقد العزم أيضاً أن الأرض له ولأحفاده «رفعت قضية وكسبتها وقدرت أخليهم يبعدوا عن المكان ويبنوا فى مكان تانى»، لم يجربوا معه إغراءً ماليا، أحرقوا له سياراته 4 مرات، أفسدوا عليه حصاد محصوله، هددوه بالقول والفعل «والله لو احتليناكوا لأرقص عارى فى تل أبيب» يرد بها الرجل الهرِم على جندى إسرائيلى يسخر من صموده. «البويرة» يسكنها نحو 50 عائلة، معظمهم من عائلة «السلطان»، بعض العائلات تسكن فى خيمة، رافضة ترك الأرض، متعلقين بتراب الوطن «إحنا الشوكة اللى فى حلق المستوطنين» يبدأ بها «عبدالجواد» الابن الأصغر للأستاذ «سلطان»، مهندس زراعى، 90% من راتبه الشهرى ينفقه على إصلاح سيارته المتهالكة جراء السير فى الطريق غير الممهد، الملىء بالنقر والمطبات، تزوج فى دار جده المجاورة لبيت والده حتى لا يترك المكان، ويتوارثه الأحفاد، تعرض أكثر من مرة لاعتداءات اليهود «نفسهم يشربوا دمنا» يقولها والدم يغلى فى عروقه، قبل أن يُكمل بزهو «كلنا هنموت، ليه مانعيش بشرف.. لو يهودى اعتدى عليَّا ده وسام إنى بستحمل كل السخافات عشان فلسطين وترابها»، فى حال اعتداء اليهود على أى ساكن بالمكان تقف جميع العائلات صفا واحدا بالمرصاد «اللى يضرب حجر.. نضربه ألف». 12 عاما، ممنوع خلالها الحاج «أنور» من زيارة القدس بسبب القضايا المتداولة ضد الصهاينة، فشلوا فى محاربته بشتى الوسائل، فقرروا إغراءه بالدمج فى المستوطنة؛ بعدما فقدوا الأمل فى تركه للمنزل «قدموا لنا عروض بتوصيل اتصالات إسرائيلية بدل خطوطنا الفلسطينية فرفضنا حتى لا ندفع فواتير تدخل جيب المحتل»، يلوم «سلطان» على من هجروا أرضهم بسبب المضايقات «كأننا بنقول للصهاينة المجرمين ديارنا خراب تعالوا خدوها». تزييف التاريخ هواية يعشقها الصهاينة، لذا أخبروا «سلطان» فى إحدى مشاجراتهم أن مكان «البويرة» يبعد 7 كيلومترات كاملة عن مستقر منزله، لكنه يضحك من صلفهم بوصية لأحفاده حفظها عن ظهر قلب، أملاها على مسامعه والده وجده «دى أرضكم.. عمّروا فيها وحافظوا عليها وموتوا بها بشرف».