فى ضوء الهجوم الإرهابى الذى قام به متسللون من غزة بالاشتراك مع عناصر من سيناء وأدى إلى استشهاد مجموعة من الضباط والجنود المصريين، نستطيع أن نؤكد أن مفهوم الأمن القومى المصرى يحتاج إلى مراجعة جذرية وعاجلة. ولو ألقينا نظرة على التراث النظرى لمفهوم الأمن القومى لوجدنا أن تعريفاته تتعدد وفق تنوع المدارس العلمية وأبرزها المدرسة الجيوبوليتيكة التقليدية التى تركز على الموقع الجغرافى للدولة وقوتها العسكرية وتوازن القوى بينها وبين الدول التى تمثل مصدراً لتهديدها، والمدرسة الحديثة التى ظهرت مع مطلع السبعينات من القرن الماضى، التى تعتمد على البعد الاقتصادى والتنموى فى تعريف الأمن، وتظهر أهمية التهديدات الداخلية كتحديات مؤثرة فى الأمن القومى. وكان لظهور هذه المدرسة تأثير ملموس فى توسيع مفهوم الأمن ليشمل نواحى متعددة اقتصادية وتنموية وثقافية واجتماعية ودينية. وتطبيق نظريات هذه المدرسة الحديثة فى الأمن القومى يبين أهمية تنمية سيناء وسد الفراغ السكانى فيها وذلك بتوطين ملايين المصريين وفق استراتيجية تنموية متكاملة زراعية وصناعية معاً، مما يستحيل معه تطبيق السياسات الإسرائيلية التى تهدف إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء باعتبارها الوطن البديل، وهذا من شأنه أن يؤدى إلى تهديد خطير للأمن القومى المصرى. كما أن النواحى الدينية التى تهتم بها المدرسة الحديثة فى الأمن القومى تشير بشكل مباشر إلى خطورة الجماعات الدينية الأصولية المتشددة التى تمارس الإرهاب ضد الدولة والمجتمع بشكل منهجى، كما فعلت من قبل جماعات إرهابية مصرية أبرزها الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد. وقد بذلت الدولة المصرية جهوداً فائقة استمرت سنوات عديدة لتستأصل شأفة هذه الجماعات التى وقع مئات المصريين والأجانب ضحايا لجرائمها الإرهابية. والأمن القومى كمفهوم -كما جاء فى دراسة للأستاذ «أحمد سمير إبراهيم»- هو «جملة المبادئ والقيم النظرية والأهداف الوظيفية والسياسات العملية المتعلقة بتأمين وجود الدولة وسلامة أركانها ومقومات استمرارها واستقرارها، وتلبية احتياجاتها، وضمان قيمها ومصالحها الحيوية، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخلياً وخارجياً، مع مراعاة متغيرات البنية الداخلية والإقليمية والدولية». وفى ضوء هذا المفهوم صِيغ مفهوم ثقافى جديد للأمن القومى، يعنى بمصادر التهديد الداخلية فى المجتمع، كالصراعات الطائفية والفقر والتوترات السياسية والأفكار المتطرفة وغيرها. وعلى ذلك يمكن القول إن دوائر الأمن القومى تتعدد، فهناك أولاً الأمن الداخلى الذى يركز على الاستقرار السياسى، والتنمية المستدامة لإشباع الحاجات الأساسية للجماهير، وعدم حدوث صراعات طائفية أو توترات اجتماعية أو نزعات فكرية متطرفة. ولدينا بعد ذلك الأمن المباشر، الذى يتعلق بالحدود السياسية المشتركة مع دول أخرى، والدفاع عنها ومنع استخدامها من أى طرف لتهديد الأمن الداخلى. ونصل فى هذا الصدد إلى لب المشكلة التى أبرزها الحادث الإرهابى الإجرامى ضد الضباط والجنود المصريين. وذلك لأن هناك اتفاقاً بين الباحثين الاستراتيجيين المصريين على أن إسرائيل هى أحد مصادر التهديد الرئيسية للأمن القومى المصرى بالرغم من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. بل إن هذا المفهوم يعد جزءا من صميم العقيدة العسكرية المصرية، غير أن هناك حدوداً مشتركة ليس مع إسرائيل وحدها ولكن مع غزة التى تسيطر عليها حركة «حماس». وقد أدت هذه الحدود المشتركة إلى مشكلات كبرى فى السنوات الماضية، بعد أن تم حفر عشرات الأنفاق غير الشرعية بين سيناء المصرية وغزة الفلسطينية، يتم من خلالها تهريب البضائع بكل أنواعها بل وتهريب الأسلحة. وهذه الأنفاق يمكن أن يتسلل منها فلسطينيون قادمون من غزة، كما يمكن أن يعبر منها مصريون إلى غزة. وعدم ضبط حركة البشر من غزة إلى مصر ومن مصر إلى غزة أدت فى الماضى إلى مشكلات أمنية خطيرة، دفعت بالدولة المصرية فى عهد الرئيس السابق «مبارك» إلى بناء جدار عازل هاجمت فكرته بعنف جماعات المعارضة المصرية. وها نحن الآن أمام موقف جديد يمثل تهديداً خطيراً للأمن القومى، ولن يقبل الشعب السكوت إزاءه، بل إن الرأى العام المصرى من حقه أن يطالب بضرورة الدخول فوراً فى مفاوضات مع إسرائيل لتعديل النصوص الخاصة بتقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق أ، ب، ج، وتحديد عدد القوات فى كل منطقة. والهدف هنا هو زيادة عدد القوات المسلحة فى كل المناطق، وتزويدها بالأسلحة التى تكفل لها الدفاع الفعال عن الحدود المصرية. ومن ناحية أخرى فإن المشاريع الطموحة التى أعلن عنها «هنية» رئيس وزراء حكومة حماس المقالة بصدد إقامة مناطق تكامل اقتصادى بين غزة ومصر ينبغى وقفها تماماً فى الوقت الراهن، لحين مراجعة الموقف الأمنى بالكامل. وتبقى بعد ذلك مسئولية رئيسية تقع على عاتق جماعة الإخوان المسلمين التى تعتبر حماس فرعاً من فروعها، وهى إعلاء مصالح مصر العليا والدفاع عن الأمن القومى المصرى بغض النظر عن العلاقات الإخوانية الفلسطينية، ويقتضى ذلك إغلاقاً كاملاً لكل الأنفاق غير الشرعية التى يتسلل منها الإرهابيون. أمن مصر القومى فى خطر، ولا بد من وقفة جادة لمراجعة مفهومه وأبعاده، وصياغة استراتيجية جديدة فعالة تكفل وقف الإرهاب وملاحقة الإرهابيين ومحاكمتهم جزاء وفاقاً على الجرائم التى ارتكبوها ليس فى حق القوات المسلحة فقط ولكن فى حق الشعب المصرى بأجمعه.