* جاءتنى فى عيادتى خائفة مرعوبة تحمل تحليل السائل المنوى لزوجها. كانت ترقبنى بشدة وأنا أقرأ التحليل الذى طلبته من زوجها. نظرتُ فى التحليل مرات وأنا أحاول أن أجد فيه أملاً للإنجاب دون جدوى، فالتحليل ليس فيه حيوان منوى واحد. إنها حالة معروفة فى الطب azospermia.. قلت لنفسى: ماذا سأقول لها؟ ليس هناك سوى الحقيقة المرة، كأنها قرأت ما بداخلى فاستعجلت الحقيقة: ماذا فى الأمر يا دكتور؟ قلت لها: هذه الحالة التى ينطبق عليها قوله تعالى «وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً» وشرحت لها حالة زوجها بالتفصيل.. بكت كثيراً قائلة: لقد أخبرنى طبيب المعمل بهذا وجئت لأتأكد من الأمر.. ثم ازداد بكاؤها وهى تقول لى: لا تخبر زوجى بالحقيقة فهو مريض بجلطات فى الساقين رغم أنه شاب لم يجاوز الثلاثين، وليس له فى الحياة غيرى. قل له إنك سليم والعيب فى زوجتك، فهو غلبان ولن يجد أحداً يرعاه غيرى، وأنا سأصبر على الأمر كما صبرت على متاعب الحياة من قبل.. قلت فى نفسى: هذا هو الإحسان بحق.. إنه درجة فوق العدل، فالعدل أن تعطى مثلما تأخذ، ولكن الإحسان أن تعطى الآخرين فوق حقهم، أن تعفو عمن ظلمك، وأن ترحم من قسا عليك، وأن تعطى من حرمك، أن تعطى دون منٍّ ولا أذى. راجعت الحياة فتذكرت أنه لولا الإحسان لهُدمت بيوت كثيرة. فولا إحسان الأم لأولادها وغفلتها عن حقوقها من أجل أولادها وأسرتها ما قامت معظم البيوت المصرية، فقد لا تشترى الأم لنفسها شيئاً عدة سنوات من أجل أن يتمتع أولادها بكل شىء. * كان معنا أحد الإخوة فى السجن وكان غاية فى الوسامة فقال لى: أبى أصيب بشلل أقعده منذ سنوات طويلة وأمى تعتبر ملكة جمال -بكل ما تعنى الكلمة- وكانت شابة فى هذا الوقت وكنا صغاراً.. فإذا بأمى تطوى متع الحياة كلها لتخدم زوجها وترعى أولادها.. واليوم نحن الاثنين فى السجن وهى تخدم الجميع ولا تترك جلسة محاكمة واحدة دون أن تحضر لنا حاملة ما لذّ وطاب من الطعام مكتفية بمعاش والدى البسيط. * قلت يومها: لولا أن هناك فى الحياة محسنون لهُدمت الحياة وهُدم الكون كله. تأملت فى زنازين السجون، كنت أرى الأكثرية من الكسالى الذين يحبون أن يخدمهم غيرهم، وفى كل زنزانة عدة إخوة يخدمون الناس ليلاً ونهاراً دون كلل ولا ملل.. يعطون ولا يأخذون، يتحملون كل شىء ولا يشتكون، وكان أحد هؤلاء كل صمامات قلبه كانت معطوبة وكان يخدم الآخرين من الأصحاء الكسالى، حتى إذا جنّ الليل على هذا الأخ تأوّه من كل جزء من جسده. * إنه الإحسان الذى لولاه ما قامت أسرة فى مصر ولا نجحت مؤسسة أو شركة أو تجارة.. ولا أى شىء. * لقد تأملت سورة يوسف كلها فوجدتها تتلخص فى كلمة واحدة هى «الإحسان» إنه المعنى الذى أحببت من أجله سيدنا يوسف حباً جماً. * لقد أحسن يوسف إلى السجناء الذين هتفوا قائلين «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» وأحسن إلى إخوته الذين ألقوه فى الجب وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. لقد قال لهم حينما تمكن منهم: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، أى لا عتاب، حتى العتاب لا يريد أن ينطق به، فالعتاب فى أوقات الصفاء جفاء، وليس من الإحسان «إنه الصفح الجميل». * لن تقوم حياتنا إلا بالإحسان، فهو أعظم وأفضل من العدل. وكنت أقول لتلاميذى: «أحسنوا فإن نزلتم عن مرتبة الإحسان وقعتم فى مرتبة العدل، أما إذا عدلتم فقد تقعون منه فى بعض الأحيان إلى مرتبة الظلم». * لقد أدرك العبقرى الصالح عمر بن عبدالعزيز هذه المعانى حينما منع سبّ سيدنا علىّ فوق المنابر وأمر بذكر قوله تعالى فى الخطبة الثانية «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى». * فمتى نرى المحسنين فى أمة تضج بالظلم والجبروت والطغيان وتفتقر إلى العدل فضلاً عن الإحسان؟