أذكر أننى كتبت ذات مرة عن «الجبل» بمناسبة وقوف المسلمين على جبل عرفات، ذلك المشهد العظيم الذى نعيشه اليوم، وقد عالجت الموضوع حينذاك من منظور دينى، تناولت فيه دور الجبل فى حياة الأنبياء، بداية من موسى -عليه السلام- كليم الله عند جبل الطور، ومروراً بعيسى -عليه السلام- صاحب موعظة «الجبل» الشهيرة، وانتهاءً بمحمد، صلى الله عليه وسلم، الذى بدأت رسالته بوحى الله له فوق جبل حراء، واختتم حياته بوضع دستور للأمة فى خطبته الشهيرة فوق جبل عرفات يوم أن حج «حجة الوداع». هذه المرة أريد أن أتوقف بعض الشىء أمام الجبل فى حياة المصريين. لم ترتبط حياة المصريين بالجبال كما هو حال بعض الشعوب، بسبب الطبيعة السهلة والمنبسطة التى ميز الله بها هذا البلد، تلك الطبيعة التى جعلت «فرعون» مصر يتعجب من أمر موسى وهو يصف له أطايب الجنة والأنهار التى تجرى فيها، ويرد عليه ذلك الرد الذى ورد فى الآية الكريمة التى تقول «وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ». فقد كان لسان حال فرعون يسأل: أية جنة تلك التى يحدثنى عنها موسى؟ وبماذا تزيد على جنة «المحروسة» التى يعيش فيها؟! باستثناء الجبال ذات الطبيعة المقدسة -مثل جبل عرفات- لا يكترث المصريون كثيراً بالجبال، ولا يطمئنون إلى الحياة فيها أو من يعيشون فى كنفها؛ فالجبل فى نظرهم رمز الغلظة والفظاظة والجمود. وربما شكّل هذا التصور أساساً لرفض الكثير من المصريين للأفكار الجبلية التى طرحها البعض عن الإسلام. وأقصد بهذا البعض جماعات الإسلام السياسى -وعلى رأسها جماعة الإخوان- التى ارتكز فهمها للإسلام على رؤية جبلية، خلافاً لما يظنه البعض من أن هذه الأفكار نبعت مما يطلق عليه البعض الفهم الصحراوى للإسلام الوافد من الجزيرة العربية؛ فالصحراء أنتجت فكراً إسلامياً متشدداً، لكنها بحال لم تحتفِ بالعنف أو ترحب به أو تدعو إليه، بل على العكس من ذلك تماماً. فالتشدد هنا يعنى التمسك بالعبادات والفروض والسنن، حتى لو كان تمسكاً شكلياً، لكن الأمر يختلف بالنسبة للإسلام الجبلى القائم على إشهار السلاح واستخدام كل ما هو متاح من أساليب عنف من أجل فرض الرأى والرؤية على الآخرين. وإذا كان الفهم الصحراوى للإسلام مصدره الجزيرة العربية، فإن الإسلام الجبلى يجد جذوره فى جبال الأفغان؛ فمن هناك وفدت أفكار الحاكمية والجاهلية وتكفير الأفراد والمجتمعات المسلمة وحمل السلاح ضدهم. ويخطئ البعض حين يتصور أن موضوعات من طراز الحاكمية والجاهلية والتكفير نبتت على يد سيد قطب؛ فقد كان مجرد ناقل لأفكار «أبوالأعلى المودودى». ومن فوق جبال أفغانستان ظهرت أفكار «القاعدة»، وداخل شعاب هذه الجبال يختفى الكثير من قيادات وكوادر هذا التنظيم التى يتم تصدير بعضها إلى جبال سيناء، مثل جبل الحلال. سيظل المصريون يؤمنون بالفهم المنبسط للإسلام ويأنفون من الفهم الجبلى؛ لأن أصحابه من وجهة نظرهم هم مجموعة من المطاريد!