مع مرور أكثر من 14 قرناً على ظهور الإسلام، لا تزال الفجوة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام (قرآناً ورسولاً) يقدّم نموذجاً إنسانياً عالمياً للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوّع الكونى والإنسانى، ويعتبر التعددية سنة إلهية، ويميّز بوضوح بين البشرى والإلهى، وهو فى الأساس جاء رحمة للعالمين وليس لبعض المسلمين فقط، ومن مقاصده الكبرى تحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على الأوطان ومصالح الناس.. كل الناس: حياتهم، عقولهم، دينهم، أموالهم، أعراضهم. وهذه الأمور الخمسة تسمى بالضروريات الخمس، وبمقاصد الشريعة، وهى الأمور التى تظهر من جميع أحكامه. وبعض أو أكثر المسلمين منذ لحظة الانحدار الحضارى وحتى الآن يفسرون هذه المقاصد على أنها خاصة بهم أو بفصيلهم، أما باقى التيارات فليس لها إلا التكفير الدينى أو السياسى وكلها فى النار. ولهذا أسباب كثيرة، أكتفى منها هنا ب«النظرة إلى الإسلام من زاوية واحدة وضيقة»، هى زاوية القراءة الضيقة والحرفية لنصوص الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والأخذ ببعض الكِتاب وترك البعض الآخر، غافلين عن روح الإسلام وأدلته الكلية. مثل هؤلاء مثل العميان الذين دخلوا غرفة مظلمة فيها «فيل عملاق»، ووضع بعضهم أيديهم على ذيله، وظنوا بل اعتقدوا أن «الفيل كله» عبارة عن «ذيل»، بينما فريق آخر وضعوا أيديهم على «رجل» الفيل وتصوّروا الفيل كأنه عمود طويل مستدير، أما الذين وضعوا أيديهم على «ظهر» الفيل فتصوّروا أنه هضبة عالية، والذين وضعوا أيديهم على «أنيابه» ظنوا أنه كائن شرس فتّاك! وهكذا الحال مع سائر الأجزاء.. ثم دخل الجميع فى جدال مميت حول ما هو الفيل؟ وأخذ كل فريق يصف الفيل «كله» بمواصفات هذا «الجزء» الذى يمسك به، والذى يعلمه علم اليقين! وعمى بعض المسلمين فى عصرنا ليس عمى عين وإنما عمى ثقافة، وعمى الزاوية الواحدة التى ينظرون منها، وهى زاوية الموروثات الاجتماعية وزاوية المصدر الواحد للمعرفة؛ فهم يخلطون بين موروثاتهم الاجتماعية والتصوّر الإسلامى النقى والشامل. ولذا تجدهم يعتقدون أنهم يحتكرون الفهم الصحيح والأوحد للإسلام، ويبدون تعصّبهم مع المختلفين معهم. مثل البدو الذين يضفون على الإسلام الطابع البدوى، فلا يرون فيه إلا سلطة الرجال وعزل المرأة، ودين الخشونة، والمعاداة للفن والحضارة. أما العلمانيون فهو عندهم علاقة فقط بين العبد وربه، ولا شأن له بصلاح الحياة العامة ولا دخل له بأى شأن من شئونها. والجماعات الماسونية والباطنية والسرية تضفى طابعها الخاص عليه؛ فتراه دين العمل السرى، والتقية، والعمل من وراء ستار، والرغبة فى السيطرة والهيمنة. أما الجهاديون، فالإسلام عندهم هو دين الفتك، والعنف، والقوة، وتكفير الآخر. وهو دار السلام فى مقابل دار الحرب. والصوفيون يرون فيه دين الزهد والتقشّف والذكر والاعتزال عن الكفاح فى الحياة. أما الكتلة الصامتة فالإسلام عندها هو دين المناسبات: رمضان، العيد، رجب، شعبان، المولد النبوى، الحج. وبعض الفنانين يتصورون الله تعالى رب قلوب فقط وليس رب أعمال أيضاً، والمهم القلب، وطالما قلبك سليم تقدر تعمل أى حاجة! وعلى عكسهم -لكنه يقع أيضاً فى الخطأ نفسه- البعض من المتشدّدين الذين يفهمون تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن؛ ويحصرون أنفسهم فى جانب ضيق: المظهر والملابس والشكليات، نصف الجسد الأسفل، الجنس، الزوجات، الطقوس.. ومن ثم حوّلوها من تعاليم للروح والجسد معاً إلى تعاليم للجسد فقط! أما الفاسدون والنصّابون من كل فصيل، فهم يخلطون بين العبادة الحقة والعبادة المزيفة، فلا يزال الكثيرون يقيمون علاقتهم مع الله من خلال الطقوس فقط، وليس من خلال الالتزام والمسئولية، فسبيل الخلاص عندهم فى الالتزام بالعبادات فقط، وليس فى ممارسة العمل البناء فى تنمية العالم، وهم يخلطون بين العبادة الحقة فى الدين، التى تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله، فتمده بدافع شخصى متجدّد لممارسة دوره فى إعادة بناء العالم وتنميته، وبين العبادة المزيفة التى يمارسها المراءون، أو التى يمارسها الذين يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض العبادات ثم يسعون فى الأرض فساداً؛ فيرتشون ويغشون ويكتمون الشهادة ويشيع بينهم عادة النفاق والإهمال والغدر وعدم الالتزام بالوعود! كما يخلط كثير من المسلمين بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير. إن الإسلام يشتمل على أصول الحكم السياسى العادل. هذا شىء لا شك فيه، لكن الكارثة تكمن فى أن يعتبر أى شخص أن مواقفه السياسية المتغيّرة والمرتبطة بالمصالح والطبقة والجماعة التى ينتمى إليها هى تعبير عن الإسلام الخالد نفسه! أما بعض رجال الدين الذين يتخذون الإسلام مهنة وليس رسالة؛ فقد حوّلوا الدين الأصلى إلى مؤسسات ذات سلطة ومرجعية تحتكر الحقيقة وتركز على الشعائر والمناسبات أكثر مما تركز على نقاء الضمير واتساق القول والفعل، وتركز على الشكل والحرف أكثر مما تركز على الجوهر والعقل والإنسان، وتبرّر للحكام قراراتهم ومصالحهم؛ فالدين عندهم «سبوبة»! وهكذا نجد أن كل هؤلاء لا تزال تسيطر عليهم الرؤية الأحادية للإسلام، بينما رؤية الإسلام أوسع من ذلك بكثير: الكون، الإنسانية، الحضارة، التاريخ، العدالة الاجتماعية، الإنصاف، الخير والرحمة للعالمين. لكل هذا يجب عدم الخلط بين الإسلام كدين فى حد ذاته، والإسلام كما يفهمه ويمارسه بعض المسلمين فى ضوء ثقافتهم المحدودة وعقائدهم الجامدة ومصالحهم الخاصة. وينتج من ذلك حتمية عدم اتهام الإسلام كدين بأى صفة سلبية نتيجة الفهم القاصر الذى تقع فيه كل هذه الطوائف الممسكة ب«ذيل» الفيل أو «رجله» أو «ظهره» أو «أنيابه»، فكل شائنة تشين هؤلاء، هم وحدهم الذين يتحمّلونها، مثل تحمّل التلاميذ الفاشلين لمسئولية عدم فهمهم للمقررات الدراسية (الجيدة طبعاً) التى يدرسونها، ومثل الأرض البور التى لا تنتج أى ثمار على الرغم من أن «الماء النقى» يرويها ليل نهار!