بعد يومين، فى الحادى عشر من سبتمبر، تمر الذكرى العاشرة على وفاة أحد البنائين الكبار فى عالم الفن والثقافة والأدب.. عبدالقادر التلمسانى (20 نوفمبر 1924 - 11 سبتمبر 2002)، أحد رواد السينما التسجيلية المصرية -مع زميليه المخرجين التسجيليين الكبيرين سعد نديم وصلاح التهامى- المثقف، الأديب، المترجم، كاتب السيناريو، المخرج السينمائى والتليفزيونى والمسرحى، ثالث إخوة ثلاثة شكّلوا ظاهرة «التلمسانية» فى السينما.. الأكبر، المناضل اليسارى والفنان التشكيلى والمؤلف والمخرج السينمائى كامل التلمسانى صاحب «السوق السوداء» درّة أفلام تيار الواقعية فى السينما المصرية. والأوسط، صاحب الموهبة الفريدة، ورجل السينما التسجيلية وأحد رهبانها المخلصين، والعين البصيرة للعديد من المخرجين، مدير التصوير الفنان القدير حسن التلمسانى مصوِّر اللؤلؤة التسجيلية «ينابيع الشمس»، إخراج چون فينى.. ثراء متضاعف، فنياً وفكرياً، منحه الأشقاء الثلاثة للوطن وأبنائه. تخرج «عبدالقادر» من معهد «إيديك» للسينما بباريس عام 1950، ومعهد الفيلمولوجى بجامعة السوربون عام 1952، وحين عاد إلى مصر اشترك عام 1953 فى تأسيس «لجنة الثقافة السينمائية» مع مجايليه من المثقفين وعشاق السينما ذوى الاتجاهات اليسارية، وهى اللجنة التى أصدرت كتابين عن فن السينما من ترجمة صلاح التهامى وكمال عبدالحليم، من خلال «دار الفكر للنشر»، إضافة إلى إصدار أول سيناريو عربى «حورية المصرية»، من تأليف عبدالقادر التلمسانى. فى عام 1957 أخرج «عبدالقادر» أول أعماله السينمائية؛ الفيلم التسجيلى «الأراجوز فى المعركة»، مصوراً فرحة الشعب المصرى ويمثله الأراجوز، بأداء الفنان الشعبى الكبير محمود شكوكو وزوجته وابنه، بتأميم قناة السويس عام 1956 ثم العدوان الثلاثى ودخول الأراجوز وعائلته المعركة وانتصار الشعب المصرى فيها.. لكنه بمواهبه المتعددة لم يقتصر على المجال الفنى، وامتد نشاطه إلى كتابة النقد الفنى وترجمة العديد من المسرحيات العالمية ل«تشيكوف وبريخت وكافكا وأوجين يونيسكو»، وإن بدا انحيازه للسينما واضحاً التى قدّم من خلالها ثلاثة وخمسين فيلماً بين التسجيلى والروائى القصير وأفلام الأطفال، لأن السينما، كما يراها، هى الوسيط الأمثل لنقل المعرفة إلى الجماهير، لذا فإن معظم أفلامه ينتمى إلى نوع معروف باسم «سينما المعرفة». تميز «عبدالقادر»، كما يصفه المخرج الكبير وزميل رحلته صلاح التهامى، بقدرته على المبادرة فى اختيار موضوعات جديدة فى السينما التسجيلية، مثل «كتاب وصف مصر»، مشيراً إلى امتلاكه الحرية الكاملة فى التعبير عن أفكاره ووجهة نظره وإن اختلفت رؤيته مع جهة الإنتاج، كما حدث مع هيئة الاستعلامات منتجة فيلمه «انفجار»، وحافظ على الفيلم كوثيقة تسجيلية صادقة تعبر عن معاناة شعب مصر. الحيدة والموضوعية فى طرح المعلومات، دون تزييف أو تضليل ثم تحليلها من خلال وجهة نظره، من السمات الأساسية لسينما «عبدالقادر»، «بصوت هادئ النبرات، متزن النغمات، معبّر عن المعنى ببساطة، صوت يجمع بين اللين والقوة، لا يجنح إلى الحدة، أو رنّة التوجيه والإرشاد، دون رتابة مملّة أو خطابة مبتذلة.. صوت حنون يحمل فى جنباته دلائل الفهم والعطاء»، كما يصفه المخرج والناقد الكبير الراحل أحمد كامل مرسى.. كان التعليق يمثل، فى سينما العديد من مخرجى السينما التسجيلية، عبئاً على الصورة، إلا أن «عبدالقادر» أجاد استخدامه فجعله الصوت الناطق بلسان الصورة، المكمل لها بالمعلومات الضرورية، والعين التى ترى وتتأمل وتربط وتقود، دون أن يعلو على السياق أو يضغط على الصورة التى أبدعتها كاميرا حسن التلمسانى، وأبرزت عشقه للشاعرية فى استخدام درجات الإضاءة لتقديم صورة جمالية، تخدم الحقيقة ولا تزيِّفها، وتدرك قيمة التصرف والاختزال. وحسن التلمسانى واحد من فريق فنى حرص «عبدالقادر» على تثبيته تقريباً، يضم مع حسن وصلاح حافظ الموسيقى سليمان جميل، الذى كان له دور بارز فى سينما «عبدالقادر»، . اهتم «التلمسانى» -الذى حصد خلال رحلته السينمائية الطويلة (1957/ 1995 تاريخ آخر أفلامه «الحضارة والتعمير») عشرات الجوائز من المهرجانات المحلية والعربية والدولية- ولعل خماسيته عن سيناء -التى سبق أن صوّر فيها عام 1961 فيلميه «جبال سيناء ودير سانت كاترين»- بأجزائها الخمسة «سيناء.. الحرب والسلام، سيناء.. أرض الأديان، سيناء.. عالم البدو، سيناء.. مشتى عالمى، كنوز رأس محمد»، رغم كثرة ما قُدّم عن تلك المنطقة - تُعَد هذه الخماسية واحدة من أفضل الأعمال التى تناولت هذا الجزء العزيز من الوطن.. فهى موسوعة سينمائية متكاملة عن الماء والأرض والبشر، تتآلف فيها كاميرا حسن العاشقة، مع تعليق صلاح حافظ المتفهم لطبيعة المكان، وتحولات الزمان.. ليشحذ العقل، ويضيف إلى الصورة البديعة ثراءًً وغنى.. وإنعاشاً للذاكرة.