ما إن غابت الشمس، وبدأ نسيم بارد يخفف حرارة الجو الملتهب، حتى التأم شمل عمال غزل المحلة ليقضوا رابع أيام اعتصامهم، ويكملوا مسيرة المطالبة بحقوقهم العادلة التى تتمثل فى 11 مطلبا مقابل فض الاعتصام، أهمها صرف الأرباح والحوافز، 12 شهرا أسوة بالشركة القابضة، ورفع مكافأة نهاية الخدمة إلى 3 أشهر عن كل سنة خدمة، ورفع بدل طبيعة العمل إلى 35% من الأجر الأساسى. أحاط الظلام بالعمال فى حديقة الشركة من كل جوانبها، إلا من أضواء قليلة تسللت لهم من لمبات مضيئة داخل الشركة، فيما صنعت كل مجموعة من العمال دائرة كبيرة وافترشوا الحدائق، حيث لا حديث هنا يعلو فوق صوت المطالب العمالية، وأخذ البعض يستنكر عدم تدخل أى مسئول لحل الأزمة حتى الآن، فيما يتذكر آخرون تاريخ إضرابات عاصمة الغزل والنسيج فى مصر، منذ الأربعينات وحتى انتفاضة 2008. وفى وسط هذه الأجواء، قضت «الوطن» ليلتها ساهرة مع العمال. «عمالية عمالية .. مطالبنا مش سياسية».. هتاف ردده العمال بقوة، تصاحبها دقاتهم على صناديق خشبية، فيما جلست العاملات يصفقن فى حماس. العاملة آمال السيد أحمد، سيدة فى عقدها الخامس، جلست صامتة تضع يديها على جبينها، وتنظر بعينيها ناحية الأرض، وتتذكر يومها الأول فى الشركة، منذ أكثر من 29 عاما، تمنت حينها أن يكون هذا الصرح الاقتصادى الكبير «فاتحة خير» تغير مسار حياتها كلها، وها هى الآن قد تمكن منها المرض ووهن جسدها. وتتذكر «آمال» جيداً يوم أن ذهبت لمستشفى الشركة وهى تصرخ من الألم، فقيل لها إن ورماً تمكن من جسدها، ولم يعطوها سوى بعض المسكنات، ورغم ذلك شاركت فى اعتصام زملائها، جالسة على الأرض، فى انتظار تلبية مطالب عمال المحلة بعدالة اجتماعية، ربما تعينها على شراء دواء وتربية أطفالها الثلاثة. وفى دائرة نسائية أخرى، جلست كريمة غنيم سالم، تردد الهتافات مع زميلاتها، وبين الحين والآخر تبحث عن أطفالها فى الظلام الدامس ليجلسوا بجوارها، وتقول «العمال هم أساس الشركة، ولكنهم آخر من يستفيد منها»، وتضيف «لو حد فينا وقع مبيلاقيش العلاج وحتى عربيات الإسعاف هنا مش مجهزة، وأحيانا بتتعطل بالعامل وهى وخداه على المستشفى». الحديث عن الوضع الصحى لعمال المحلة جعل الجميع يتذكرون قصة مرض زميلهم «عبد ربه توفيق السعيد» مريض الكبد، ويتذكرون كيف كان يبكى كل يوم من شدة الألم ولا يجد ثمن علاجه، ويتذكرون أيضا كيف زاد الأمر سوءا عندما أصيبت زوجته بورم فى الصدر، وأثقلت تكاليف علاجه وإيجار مسكنه كاهله، فأصبح يعيش على «السلف»، وعندما طالب الشركة بتوفير شقة له فى مساكنها، رفضت تماما. أطفال العمال كانت لهم تجمعات من نوع خاص، بعضهم استغل بعض القاطرات فى الجلوس عليها واللعب على سطحها، ومجموعة أخرى صنع لهم آباؤهم «مراجيح» داخل الخيام، ربما تنسيهم حرارة الجو، فيما أخذت مجموعة ثالثة تطوف أرجاء الشركة خلف طفل صغير يمسك بفانوس، فرحين بقدوم شهر رمضان رغم ما تعانيه عائلاتهم. وعندما حان موعد العشاء، خرجت مجموعة من العمال لشراء ساندوتشات «فول وطعمية ومخلل»، فيما جهزت العاملات «ترموس» الشاى، وجلس الجميع فى دوائر ليتقاسموا وجبة العشاء، الكل هنا يحفظ الآخر عن ظهر قلب، فتلك العاملة تجلس بجوار زوجها، الذى كان قد التقى بها فى قسم الغزل منذ ما يزيد على عشرين عاما، أما ذلك العامل فيمد يده بساندوتش الفول لزميلته فى قسم النسيج وأطفالها الثلاثة. «لا كلام على طعام»، ولكن هنا على مائدة عشاء عمال المحلة لا كلام سوى فيما يخص الاعتصام. بعدما انتهت الوجبة الأخيرة لهذا اليوم، عاد الجميع لأماكنهم، يتبادلون أكواب الشاى، فيما جلس آخرون يطرقون بقطع خشبية على قاطرات موجودة أمام حديقة الشركة، ليصنعوا ضوضاء تصل إلى سكان مساكن الشركة من الإداريين، لعلهم يشعرون بهم، وبعد ساعات قليلة، بلغ الإرهاق مبلغه من أجساد العمال، فافترش بعضهم الحديقة للنوم، فيما غادرت العاملات الشركة بأطفالهن، على أن يعدن للانضمام للاعتصام فى الصباح الباكر.