تمر مصر بظرفٍ تاريخى دقيق وعصيب، على مستويات كثيرة، وتشهد تحولات اجتماعية وسياسية وفكرية، ويجرى تغيير فى الخرائط الثقافية والاجتماعية للشعب المصرى، والشعب المصرى الكريم، الراغب فى حياة كريمة، تليق به وبتاريخه ودروه، يتطلع إلى تغيير آمن، يزيل كل بؤر الظلم والفساد، ويحفظ فى الوقت نفسه العوامل التى صنعت الشخصية المركبة والمتقنة والمتميزة للإنسان المصرى. وقد تضافرت عدة عوامل على صناعة شخصية الإنسان المصرى، وعلى توسيع أفقه، وعلى إعداده ليكون قائداً وأستاذاً فى محيطه العربى والإسلامى، مما صنع بالتدريج شخصية الوطن المصرى، بكل ثقلها التاريخى والعلمى والقيادى. والعوامل التى صنعت شخصية الإنسان المصرى كثيرة، فمن تلك العوامل: الموقع الجغرافى العبقرى، الذى تلتقى فيه ثقافات وحضارات وتراكمات تاريخية، حتى عبر عنه جمال حمدان بعبقرية المكان، ومن تلك العوامل: التراكم التاريخى والحضارى، الذى يمنح الإنسان المصرى وعياً بذاته، وبمقدرته على صناعة الحضارات من فجر التاريخ، مما يعطيه ثقة فى قدرته على الإنجاز، ومن تلك العوامل: الموارد البشرية والاقتصادية الواسعة، التى حققت لأبناء هذا القطر المصرى رخاء وكفاية، تساعده على الالتفات إلى الكمالات النفسية والعقلية، والنظر فى الشئون الإدارية والسياسية فى محيطه العربى والإسلامى، ومن أهم تلك العوامل: المصانع الفكرية، التى قامت بالتعليم والصياغة والتشكيل لشخصية الإنسان المصرى، على العلم الواسع، والفكر العميق، والاتزان فى إدراك شئون الحياة، وعلى رأس تلك المصانع الفكرية الأزهر الشريف، حيث يمتد دوره على مدى ألف سنة، قام فيها بخدمة الشعب المصرى فى صناعة التعليم والفكر والثقافة، وصياغة الشخصية المتوازنة للإنسان المصرى. فالأزهر الشريف إذن ممتزج بتاريخ المصريين، على نحو راسخ فى أعماق شخصية الإنسان المصرى، وهو صانع محورى لشخصية المصرى وعقله، وهو أمين على مواريث النبوة، من العلوم الشرعية خصوصاً، ومن سائر العلوم والمعارف عموماً، حتى استقر بالتدريج عبر التاريخ تحالف لا ينفصم بين الأزهر الشريف، وبين الشعب المصرى، لا سيما وقد انتشرت فى الشرق والغرب سمعة علمية فائقة للأزهر الشريف، من حيث إنه يخرج منتجاً علمياً فائقاً وممتازاً، فبدأت الشعوب المختلفة ترسل أبناءها إلى الأزهر، فنشأ فى الأزهر الشريف رواق خاص لأبناء كل جنسية، فكان منها رواق الأتراك، ورواق الأكراد، ورواق الصينيين، ورواق الهنود، ورواق البغداديين، ورواق اليمنيين، ورواق الجبرت (ويضم أبناء الصومال والحبشة وإريتريا، وشرق أفريقيا)، ورواق المغاربة، وكان من أكبر أروقة الأزهر، لكثرة عدد المجاورين من طلبة العلم، المقيدين به، ورواق جاوة (أندونيسيا وأرخبيل الملايو)، ورواق الشوام، ورواق الحرمين (مكة والمدينة)، ورواق الدكرنة (نسبة إلى أهالى سنار، ودارفور، وكردفان)، ورواق دكارنة صليح (ويضم أبناء بحيرة تشاد والبلاد المجاورة بوسط القارة الأفريقية)، ورواق الفلاتة (ويضم الوافدين من أهل أفريقيا الوسطى)، ورواق البرابرة (ويضم المجاورين من موريتانيا والبلاد المحيطة بها)، ورواق البرناوية (ويضم الطلبة القادمين من غرب أفريقيا كالسنغال وساحل الذهب وغانا ونيجيريا وغينيا)، ورواق السليمانية (يضم أبناء أفغانستان وخراسان)، ثم رواق ابن معمر، ويضم طلبة من جميع الأجناس. مما يعنى أن الدور الذى قام به الأزهر، فى المساهمة فى صناعة الشخصية القائدة الرائدة للشعب المصرى، قد ألقى بظلال واسعة، وسمعة حسنة، عند الشعوب المسلمة فى المشارق والمغارب، فجاء ألوف من الوافدين للدراسة فى الأزهر، فاتسع دور الأزهر حتى تجاوز الدائرة المصرية، إلى دائرة أخرى أوسع بكثير، وهى العالم الإسلامى كله، حيث أسهم العلماء المتخرجون من الأزهر فى صناعة الهيئة العلمية والشرعية فى تلك الدول، وقد أسهمت ببحث متواضع فى رصد هذا الأثر العجيب للأزهر، اسمه: (الأزهر الشريف وأثره فى صناعةِ ثقافةِ العَالَمِ)، وهو منشور. وإلى يومنا هذا يوجد فى مدينة البعوث الإسلامية التابعة للأزهر الشريف خمسة وثلاثون ألف طالب، من مائة وأربع من الجنسيات المختلفة، كلهم يرجعون إلى بلدانهم، ليكونوا بمثابة سفراء لمصر وللأزهر فى تلك البلدان. ومن جملة أسفارى أنى زرت الديار الهندية، فكان الشيخ أبوبكر أحمد رئيس جامعة مركز الثقافة السنية يقول لى: (لو قَبِلَ شيخُ الأزهر دعوتى لجمعت فى استقباله خمسة ملايين يكونون فى شرف استقباله)، مما يكشف عن عمق التأثير الأزهرى فى الدائرة المصرية، والعربية، والإسلامية، والخلاصة أن الأزهر ثروة قومية، وأنه مقوم وركن أساسى من أركان الدولة المصرية، فلا بد من الحفاظ عليه، بمنهجه، وخصوصيته العلمية، ولا بد من إدراك أنه أكبر من الأشخاص والأفراد، وأنه صمام أمان للوطن.