تسير الطفلة منيرة وسط مئات من المواطنين فقدوا منازلهم، تسأل عن المياه بين حين وآخر، ثم تأتى الصرخة مدوية من أم فقدت رضيعها، ثم تليها صرخة على الجدة التى لم تتحمل العطش، وتنبش الأرض بالأيدى المتعبة ثم توارى الجثامين فى التراب، وتستكمل رحلة الشتات. مازالت الدموع تظهر فى عين منيرة شيحة السيدة السبعينية، كلما تذكرت رحلة تهجيرها مع أسرتها من مدينة يافا بعد مقتل والدها، قبل أن تبدأ حياتها هنا فى مصر بالقرب من القبة الخيدوية بالدمرداش عام 1949. تعمل منيرة حاليا مشرفة منزل الطالبات الفلسطينيات، بالقرب من ميدان المساحة بالدقى، وتناديها الفتيات "خالتو"، وبالرغم من إنها تعيش فى مصر منذ 63 عاما، إلا إنها مازالت محتفظة بلهجتها الفلسطينية. كان عمرها 8 سنوات عندما وصلت مصر وبدأت تدرس فى مدرسة المبرة، وتعلمت فنون التطريز، وتم اختيارها لتلقى كلمة فى افتتاح المعرض الذى يحضره الملك، وطلبت منها مدرستها أن تقبل يد "مولانا" فور دخوله. تضحك منيرة بشدة "وقتها البنات كلهم جريوا يسلموا على الملك والدنيا اتلخبطت"، وعقب انتهاء الحفل صفعتها المدرسة على وجهها، فوجئت منيرة من عتاب المدرسة لها لأنها لم تقبل يد مولانا، فسألت ببراءة قبل أن تنهمر فى البكاء "هو فين مولاكم ما شفته؟". منيرة أم لأربع أبناء، اثنان منهما يعيشان فى أمريكا، وواحدة متزوجة وتعيش فى مصر، أما الصغير فيحاول تحقيق الحلم القديم، استرداد الأرض، هناك فى يافا يعيش محمد الصغير بعد أن تزوج من فتاة من عرب 48، وهدف الأم منيرة أن تسترد المنزل عن طريق دعوى قضائية ترفع فى المحاكم الإسرائيلية، بخاصة وإنهم يمتلكون أوراق رسمية تؤكد ملكيتهم للبيت. جدران منزل الطالبات بالدقى تنبض برموز فلسطين، العلم، والكوفية، وصور القدس، ورسمة حنظلة التى ابتكرها رسام الكاريكاتير الفلسطينى الراحل ناجى العلى، رسمتها للذكرى إحدى الطالبات قبل أن تغادر، ومن بين كل الرموز تحب منيرة حنظلة. تقضى منيرة معظم وقتها داخل "الفرندة" الواسعة الملتفة بمساحة المبنى كله، تجلس على الكرسى الوحيد فى المكان، تطلع إلى الشارع الضيق، الذى يطل عليه المبنى، تتذكر الحياة فى عصر الملك فاروق "كانت رخيصة وبسيطة"، أحوال الفلسطنيين كانت أفضل، حتى أن القصر الملكى كان يعد طعاما يوميا للفلسطينيين المهجّرين. ومع شروق شمس ثورة يوليو 1952 دب الأمل فى قلوب الفلسطنيين، وبدى الطريق إلى بيوتهم أقرب فى مخيلتهم، وعاد الأمل فى تحرير الأرض مثلما حدث فى مصر، بخاصة مع جلاء الاحتلال البريطانى. ظل الأمل يكبر يوما بعد يوم، والتعلق يزيد بخطابات الرئيس جمال عبد الناصر التى تشق الظلام المخيم على حياة المهجرين، كما أنه منحهم وثائق مصرية تؤمن عيشهم فى مصر،عشقت منيرة الزعيم عبد الناصر، وتتذكر إنها انهارت من الحزن والبكاء عند رحيله، لأنها كانت تعتبره والدها فى مصر. خيمت النكسة بظلال الحزن على كل البيوت، وأمل منيرة مع المهجرين يبتعد، القدم الإسرائيلية تحتل كل الأراضى، فانضمت سيناء والجولان إلى قائمة ما سلب من الوطن العربى. عاصرت منيرة 4 حكام فى مصر، وثورتين، تأسفت على الفترة التى حكم فيها السادات مصر، ليس فقط معاهدة كامب ديفيد التى تراها حطمت قلوب الفلسطنيين، لكن سلبت أيضا فى عهده حقوق العيشة الكريمة، "بعد ما كان عبد الناصر يعاملنا على إننا أهل البلد، أصبحنا نتعامل مثل الأغراب". منع الفلسطنيين من الالتحاق بالمدارس الحكومية والجامعات، إلا عند الحصول على مجموع يتخطى 90%، أغلقت التجارة بين مصر وفلسطين، وأصبح المرور إلى غزة أصعب ويحتاج تصاريح من جهاز أمن الدولة. رحل السادات، وعاد النور يتسرب من شقوق جدران القلوب المحطمة، لكن جاء مبارك ليقضى على كل ما تبقى من أمل، ألغيت فى عهده "حق العودة" في اتفاق أوسلو، باعتماد القرارين 242 و338 أساساً لمفاوضات الوضع الدائم وتجاهل القرار 194 الخاص بحق العودة، وقبل باستبعاد القرار 194، ومنع الفلسطينيين من العمل فى المؤسسات الخدمية الحكومية كالمدارس والمستشفيات. ترصد منيرة من إحدى جهات شرفتها المبنى السفارة الإسرائيلية سابقا، تشير إلى الأدوار الثلاثة عند كوبرى الجامعة، وتتذكر "الكشاف الأزرق"، الذى وضعته السفارة باتجاه بيت الطالبات لرصده، تحسبا لأى محاولات للهجوم على طوابق السفارة الظاهرة بوضوح من "الفرندة". أزاحت ثورة 25 يناير السفارة الإسرائيلية من وجه منيرة، كما أزاحت مبارك أيضا الذى تعتبره قضى على حقوق الفلسطنيين، لكن لم يعد لديها أمل فى الرئيس الجديد، وتصفهم كلهم بأنهم "طمعانين فى الكراسى".