إدارة اقتصادية جديدة    طلب إحاطة بشأن رفع بعض المدارس الخاصة للمصروفات بنسبة 100%    البنك المركزي الأوروبي يقرر خفض سعر الفائدة 0.25%    التحالف الوطنى للعمل الأهلى ينظم احتفالية لتكريم ذوى الهمم بالأقصر    البنك المركزى: 113.6 تريليون جنيه قيمة التسويات اللحظية بالبنوك خلال 5 أشهر    تراجع مبيعات التجزئة الإيطالية بنسبة 0.1% خلال أبريل الماضي    مصدر رفيع المستوى: حماس سترد على مقترح الهدنة خلال أيام، وتلقينا إشارات إيجابية    النمسا: إنقاذ 40 مواطنا بعد انحراف قطار عن مساره وخروجه عن القضبان    تصفيات كأس العالم، بوركينا فاسو لم يعرف طعم الفوز على منتخب مصر    محافظ أسوان يكرم أبطال نادي ذوي الاحتياجات الخاصة لحصدهم العديد من الميداليات الذهبية    تعليمات عاجلة من تعليم القاهرة لرؤساء مراكز توزيع أسئلة امتحانات الثانوية العامة    تجديد حبس طالب 15 يوما بتهمة قتل عاطل بسبب هاتف محمول فى المرج    تعذر رؤية الهلال.. مركز الفلك يعلن أول أيام الأضحى 2024    التحقيق مع عاطل هتك عرض طفل في الهرم    قبيل عرض الثالث.. تركي آل الشيخ يلمح لجزء رابع من فيلم ولاد رزق، ما القصة؟    أفضل دعاء يوم عرفة.. ردده لغفران ذنوبك وعتق رقبتك من النار    كم عدد أيام الذبح في عيد الأضحى؟.. اعرف التوقيت الأفضل    تفاصيل مناسك يوم التروية والمبيت في مني    للمساعدة في أداء المناسك.. نصائح هامة للحجاج لتناول وجبة غذائية صحية متكاملة    فحص 889 حالة خلال قافلة طبية بقرية الفرجاني بمركز بني مزار في المنيا    عضو بالبرلمان.. من هو وزير الزراعة في تشكيل الحكومة الجديد؟    نجم الإسماعيلي: الأهلي هياخد الدوري وشجعته في نهائي أفريقيا    القليوبية تحصد المراكز الأولى فى لعبة الكاراتية على مستوى الجمهورية    حسام البدري: تعرضت للظلم في المنتخب.. ولاعبو الأهلي في حاجة إلى التأهيل    رئيس الوفد فى ذكرى دخول العائلة المقدسة: مصر مهبط الديانات    تخريج 6 دفعات من معهد المحاماة ومشروع تدريبي لنقابة المحامين للعدالة الإلكترونية بالوادي الجديد    تراجع أسعار الفول والزيت والدواجن واللحوم اليوم الخميس (موقع رسمي)    أول ظهور لوزيرة الثقافة بعد وفاة والدتها في افتتاح معرض "بديع صنع الله"    انخفاض 10 درجات مئوية.. الأرصاد تكشف موعد انكسار الموجة الحارة    تباين أداء مؤشرات البورصة بعد مرور ساعة من بدء التداولات    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الجمعة 7-6-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    ليلة في حب سيدة المسرح العربي.. تفاصيل تكريم سميحة أيوب بدار الأوبرا    الخشت يعلن أسماء الفائزين في مسابقة وقف الفنجري    قبل ساعات من زفافهما.. 3 أعمال جمعت جميلة عوض وزوجها أحمد حافظ    تركي آل الشيخ: أتمنى جزء رابع من "ولاد رزق" ومستعدين لدعمه بشكل أكبر    في احتفالات اليوم العالمي للبيئة.. لقاءات متنوعة لقصور الثقافة بالسويس    الأحد.. دار الأوبرا تنظم حفلا ضمن سلسلة كلثوميات لفرقة عبد الحليم نويرة    وزير الري: تراجع نصيب الفرد من المياه إلى 500 متر مكعب (تفاصيل)    مقابل وديعة دولاية.. مبادرة لتسهيل دخول الطلاب المصريين بالخارج الجامعات المصرية    إسبانيا تبدي رغبتها في الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»    أبوالغيط يتسلم أوراق اعتماد مندوب الصومال الجديد لدى جامعة الدول العربية    رئيس جامعة المنوفية يتفقد سير الامتحانات بكلية التمريض    كيفية تنظيف مكيف الهواء في المنزل لضمان أداء فعّال وصحة أفضل    لحجاج بيت الله.. نصائح مهمة للحصول على وجبة غذائية صحية    أمين الفتوى: لابد من أداء هذه الصلاة مرة واحدة كل شهر    قبل عيد الأضحى.. ضبط أطنان من الدواجن واللحوم والأسماك مجهولة المصدر بالقاهرة    "تخيلت نفسي على دكة الزمالك".. البدري يكشف لأول مرة ما فعله مع أمير مرتضى ورد صادم    بوريل يستدعي وزير خارجية إسرائيل بعد طلب دول أوروبية فرض عقوبات    جواب نهائي مع أشطر.. مراجعة شاملة لمادة الجيولوجيا للثانوية العامة الجزء الثاني    وزيرة الثقافة تشهد الاحتفال باليوم العالمي للبيئة في قصر الأمير طاز    البرلمان العربي: مسيرات الأعلام واقتحام المسجد الأقصى اعتداء سافر على الوضع التاريخي لمدينة القدس    رئيس شؤون التعليم يتفقد لجان امتحانات الثانوية الأزهرية بالأقصر    إصابات في قصف مسيرة إسرائيلية دراجة نارية بجنوب لبنان    هشام عبد الرسول: أتمنى تواجد منتخب مصر في مونديال 2026    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المحافظ جاى 000!!؟    مصر تتعاون مع مدغشقر في مجال الصناعات الدوائية.. و«الصحة»: نسعى لتبادل الخبرات    وزير الخارجية القبرصي: هناك تنسيق كبير بين مصر وقبرص بشأن الأزمة في غزة    ملف رياضة مصراوي.. تصريحات صلاح.. مؤتمر حسام حسن.. تشكيل منتخب مصر المتوقع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالفيديو .. «الوطن» ترصد: «القيسون».. مهنة الدم والروح
وفاة 150 خلال السنوات ال10 الأخيرة.. والقرية تستقبل 10 مصابين على الأقل شهرياً
نشر في الوطن يوم 08 - 07 - 2012

يستيقظ فجراً ويحزم حقيبته المهلهلة ويخرج من بيته محبطاً بائساً، وينتظر مع زملائه على كوبرى قرية الرهاوى التابعة لمحافظة الجيزة حضور السيارة النقل لتحملهم مع المعدات والمواسير الحديدية ليتجهوا بها إلى هناك، حيث لا زرع ولا ماء فى قلب الصحراء، ينظرون إلى قريتهم فى صمت، فهم لا يعلمون، هل سيعودون إليها مرة أخرى أم سيكون لمخاطر «القيسون» كلمة أخرى، كما جرى الحال مع زملائهم أكثر من مرة.
ورث العمال المهنة عن أجدادهم وآبائهم وأطلقوا عليها «القيسون» من القسوة، وهى تعنى حفر الآبار الارتوازية، يعمل أغلب أطفال وشباب القرية فى هذه المهنة حتى إذا بلغوا سن ال40، يكونون مرفوعين من الخدمة، لأنها مهنة لا تحتاج إلا للقوى المتين.
«الوطن» عاشت مع عمال «القيسون» بقرية الرهاوى منذ خروجهم من بيوتهم، حتى بلوغهم منطقة الحفر بقلب صحراء وادى النطرون بالبحيرة، وقضت معهم ليلة كاملة فى خيمتهم البالية، لتحكى حكاية مهنة قائمة على العرق والدم.
فى تمام الساعة ال6 صباحاً، جلس رضا عاشور ونون هلال عبود مع زملائهما أمام محال القرية المغلقة بجوار كوبرى الرهاوى منتظرين قدوم المقاول مع سيارته النقل ليحملهم عليها مع المواسير، التى جاءت بعد فترة قصيرة، وركب العمال وأخذوا يتحدثون فيما بينهم تارة ويتضاحكون تارة أخرى، ليهوّنوا على أنفسهم طول الطريق، اشتروا فى الطريق طعاماً للإفطار يكفيهم لسد رمقهم، عبارة عن جبن وفول وطعمية وخبز. وعلى الرغم من أن الخطاطبة ودريس تبعدان عن القرية بأكثر من 50 كيلومتراً فى طريق ليس سهلاً حيث لا بد أن تعبر السيارة ترعة النوبارية عبر معدية بقرية دريس، حملت سيارات نقل ثقيلة وأخرى صغيرة بجانب المواطنين ونقلتهم من الضفة الشرقية إلى الغربية.
ووصل العمال أخيراً إلى مكان حفر البئر الذى تحيط به الرمال من كل جانب وبعض المزروعات القليلة مثل الأناناس وأشجار المانجو، ورغم أشعة الشمس الحارقة، لم يبدُ عليهم أى نوع من القلق أو الشكوى، لكنهم كانوا «مسعدين» حسب وصفهم، وعلى الرغم من أن هذه البئر بعيدة عن المياه وعن العمار فإنهم قالوا لنا: «إنتوا كدا ما شفتوش حاجة خالص دا فيه ناس هنروح لهم بعد شوية فى صحراء وادى النطرون بالبحيرة على بعد 50 كيلو من العمار شغالين فى قلب الجبل من 15 يوم بيشربوا ميه مالحة وبياكلوا عيش معفن وبيشتغلوا فى عز الحر»، وتابعوا: «إحنا كدا بنعتبر نفسنا لسه فى البلد»، كان على هؤلاء العمال فك «مقص» من ثلاث أرجل على شكل هرمى منصوبة ونقله إلى مكان آخر على بعد كيلومتر، ويقسمون أنفسهم إلى مجموعات؛ الأولى تبقى فى مكان البئر الجديدة، والثانية سوف تتحرك مع السيارة لتحمل المواسير الحديدية وبعدها تتجه إلى صحراء وادى النطرون حيث يعمل زملاؤهم هناك منذ أسبوعين.
حديثهم هذا جعلنا نغير هدفنا إلى رؤية هؤلاء البائسين، الذين انقطعت أخبارهم منذ 3 أيام، بسبب عدم وجود تغطية لشبكات المحمول هناك. حمل ثلاثة من العمال مواسير يتراوح وزن الواحدة منها ما بين 300 و400 كيلو برفعها على السيارة عبر مواسير حديدية أخرى رفيعة. بعدها اتجهت السيارة إلى وادى النطرون مروراً بمركز بدر والسادات ثم بطريق القاهرة الصحراوى حتى بداية طريق العلمين، ومنه إلى «مدق» طريق غير مسفلت يشق الرمال نهايته غير معلومة، ولا يظهر فى الأفق أى شىء يدل على وجود أحياء فيه، وبعد ساعة من السير خلال المدق، رأينا أخيراً «مقص» آخر لونه الأسود يكسر صفرة الرمال.
وصلنا الساعة ال2 والنصف ظهراً، كان العمال فى فترة راحة، هربوا من أشعة الشمس وحراراتها إلى داخل خيمة ضيقة تستوعب 7 عمال، فيها ينامون ويأكلون ويدخنون الشيشة أيضاً «ظننا فى البداية أن هؤلاء العمال من الرجال مفتولى العضلات كبيرى الحجم، لكننا فوجئنا أن من بينهم أطفالا وشبابا صغيرا لا يتعدى عمرهم العشرين سنة. جلسوا يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث مهونين على أنفسهم حرارة الجو وقسوة المهنة والبعد عن الأهل والأحباب وسط هذه الطبيعة الصعبة. معزولون عن العالم لا يعرفون عنه أخباراً، وإن أحبوا الاتصال بذويهم كان عليهم السير لمدة كيلومتر حتى يبلغوا «تبة» عالية تصلها شبكة المحمول أحياناً.
يحرصون على أدء الصلوات الخمس التى يعرفون توقيتها فقط، لكن لا يسمعون لها أذاناً قط، يتوضأون من مياه وضعت فى حفرة ليست عميقة، فى قاعها غطاء من البلاستيك يضمن عدم تسرب المياه إلى الرمال، بعد فترة استراحة قصيرة يستكمل العمال مرة أخرى ما بدأوه فى هذا اليوم ويبدو أنهم قد تعودوا على الحر وتعود الحر عليهم، فلا يبالون به، ويتوجهون بهمة ونشاط إلى الماكينة لتشغيلها، حيث يكسر صوتها المرتفع سكون الصحراء، يفتخر عمال قرية الرهاوى بأن هذه الآله العملاقة صنعت فى القرية نفسها من الألف إلى الياء.
وقال جمعة عبدالعزيز، رئيس العمال: إن «الرهاوى لديها اكتفاء ذاتى من كل ما له علاقه ب«القيسون» أو بحفر الآبار الارتوازية حتى المواسير البلاستيك تصنع بالقرية أيضاً، لكن المواسير الحديد فقط هى التى يجرى جلبها وشراؤها من شركات البترول، وتقوم ورش القرية بإعادة قص و«قلوظة» هذه المواسير حتى تصلح للاستخدام فى القيسون». بعد عمل متواصل استمر أسبوعين وصل عمق الحفرة الآن إلى 220 متراً، ووصلوا بالفعل إلى الخزان الجوفى وهو ما يشير إلى قرب انتهاء العمل بهذه البئر ومن ثم العودة إلى بيوتهم سالمين ما لم يحدث مكروه لأحدهم. وحسب وصف جمعة جمال، أحد العاملين بهذه البئر، الذى لم يمر على زواجه سوى شهرين وترك عروسه منذ أسبوعين وهو مغلوب على أمره، «خطورة عملنا تكمن فى المقص، الذى من الممكن أن يقع فوق رؤوسنا فجأة. هذا غير «السيبيا» التى يحملها المقص والتى تصيب بعضنا عند تركيبها أو فكها، فضلاً عن تركيب وتثبيت المواسير أيضاً يؤدى إلى حالات إصابة كبيرة، وأثناء خروج «البلف» من المواسير كل 10 دقائق ليخرج مادة طينية سائلة، هذا بالإضافة إلى آلة التشغيل الكبرى التى لها نصيب كبير من إصابة العمال وتؤدى أحياناً إلى قطع اليد أو الوفاة».
كل شىء هنا يسير بنظام، يقسم العمال «الشغل» فيما بينهم؛ حيث يثبت أحدهم المواسير، ويشغل آخر الماكينة، ويبعد ثالث «الوحل» الذى يخرجه «البلف» عن محيط البئر، ويشرف رئيس العمال على كل كبيرة وصغيرة ويوجه كل العمال، وينادونه ب«الريس جمعة»، وهو أكبرهم سناً ويبلغ من العمر 40 سنة.
أما أصغر العمال ال7 فهو حمادة طلعت «13 سنة» والده متوفى، وفى الصف الثانى الإعدادى، يعمل فى «القيسون» فى إجازة الصيف، ليساعد أهله، حيث يتراوح أجر العامل بين 60 و70 جنيهاً يومياً، وتتمثل مهمته فى طهى وتجهيز الطعام للعمال فى الوجبات الثلاث، وهو «المسئول عن نظافة الخيمة وغسل الأوانى والحلل»، حسب وصفه، دوره ليس هذا فقط، لكنه يساعد باقى «الأنفار» فى أعمالهم بعد الانتهاء من المهمة الموكلة إليه.
حمادة سعيد بعمله لأنه يدر دخلاً يستطيع الإنفاق من خلاله على نفسه وعلى أسرته، شاب آخر عمره 19 عاماً اسمه محمود عبدالنبى، متزوج منذ عامين وأنجب طفلة اسمها «ملك»، جسمه نحيف جداً، ومع ذلك يقوى على العمل بهذه المهنة الشاقة، يداعبه زملاؤه بجدته المعمرة «الحاجة خضرة» التى تبلغ من العمر 108 سنوات، يقول عنها «إنها مصحصحة وعارفة كل حاجة وصحتها زى التاكسى»، بعد غروب الشمس يسدل الستار على عمل يوم طويل وشاق، ويتجه كل منهم إلى حفرة المياه ويملأون جراكن صغيرة بالمياه حتى يتوضأوا ويصلوا المغرب، وبحلول الظلام يكون الجو ساكناً إلا من صوت مولد كهرباء صغير يضىء لمبة واحده فقط لا تستطيع إنارة كل الخيمة، وبعد تناول العشاء مباشرة يمارس حمادة مهامه ويعمل الشاى لزملائه بعد وجبة «الكوسة» التى أكلوها بنفس راضية ومطمئنة، يبدو أن التعب حل عليهم وظهر النوم فى عيونهم لكنهم يقاومونه حتى يصلوا العشاء ثم يسلموا جفونهم لسلطان النوم، لا يدرون بأنفسهم إلا فى صباح اليوم التالى، إلا إذا حدث مكروه لأحدهم، وما أكثر هذه الليالى، حيث يزور أهل الخيمة بصفة متقطعة عقارب وسحالى صحراوية، فضلاً عن الرياح العاتية التى خلعت خيمتهم ذات مرة من مكانها وألقتها على بُعد 50 مترا من مكانها، ولم ينتبه العمال لذلك من شدة التعب وغرقهم فى النوم، ولم يستيقظوا إلا بعد أن لفح البرد أجسادهم.
حياة هؤلاء مثل الدوامة لا جديد فيها إلا وصول تلك السيارة التى تحمل إليهم الطعام والشراب وأخبار الأهل والأحباب كل 3 أيام، إن سنحت الفرصة ورضى عنهم المقاول.
تستقبل قرية الرهاوى مصابين كثيرين كل شهر، فضلاً عن المتوفين بسبب «القيسون»، ومع ذلك لا يترك أهلها مهنتهم إلا وهم مجبرين بعد إصابتهم بعاهات مستديمة أو عند وفاة أحدهم، مثل أحمد سعيد حسين حفناوى، الذى توفى منذ أسبوع، عمره 28 سنة، ومتزوج وله بنتان كانتا تنتظرانه بلهفة شديدة بعد عودته من السفر، لكن المقاول جاء به إليهم وهو جثه هامدة بعد أنهى كابل كهرباء حياته عندما كان يحفر بئراً لنزول «العِدّة».
ومن مصابى «القيسون» بالرهاوى قابلنا أحمد عامر أحمد «42 سنة»، الذى كان يعمل بكل قوته فى «القيسون»، ويتقاضى 15 جنيهاً فى اليوم، ويتحمل قسوتها من أجل أبنائه الصغار، حتى ترك المهنة منذ 8 سنوات مضطراً، قال إن «القيسون عامل زى عصارة القصب، المقاولين بيشربوا العصير وبيرموا العود، إحنا بقى زى العود، أصبت فى ذراعى وفى رأسى ولم أتمكن بعدها من العمل بعد أن سقطت قطعة حديد على جسمى أثناء حفر البئر، بعد إصابتى فِضلت 6 شهور طريح الفراش لا حول لى ولا قوة، لم يكمل أبنائى تعليمهم، وبسبب ما عانيته ابتعدوا عن القيسون وعملوا فى مهن ضعيفة الأجر لكنها قليلة المخاطر»، وقال عامر: «نحن يضحك علينا فى هذه المهنة حيث من يصاب يحصل على 10 آلاف فقط تصرف غالباً فى علاجه، أما من يتوفى، فتحصل عائلته على 20 ألف جنيه فقط».
وفى محل بقالة صغير قابلنا شاباً «أصابه الشيب اسمه محمد رمضان حسن الهوارى، 22 سنة، متزوج وله ولدان، ولم يكمل تعليمه وعمل بالقيسون حتى يساعد والده المسن»، قال عن حكايته مع «القيسون»: «من سنتين كنت بشتغل مع مقاول اسمه عمر أحمد، كنا بنحفر بير وفجأة لقيت «السيبيا» وقعت على راسى ولم أعرف ما حدث إلا وأنا فى سرير المستشفى، بعد أن فقدت الوعى لمدة 11 يوم، وكان عندى نزيف داخلى ومركب مسمار نخاعى فى رجلى وعاوز لسه عملية بس الحال ما يسمحش». وأضاف: «أنا غارق فى آلامى ظننت أن المقاول سيسأل عنى ويعوضنى عما لحق بى من أذى وعاهة تمنعنى عن العمل، لكنه لم يفعل أى شىء من هذا بل عندما طالبناه بالإنفاق على علاجى، رفع قضية على ليبرئ نفسه، وادعى أن سبب الإصابة حادث سيارة عادية، أما أبى فهو رجل «غلبان» لا يحب الدخول فى مشاكل وآثر السلامة وفوض أمره لله ففتحت محل بقالة على قد الحال عشان حتى نقدر ناكل أنا وإخواتى وعيالى الصغيرين».
رضا شاب آخر له حكاية مع «القيسون»، حيث رأى الشاب الذى لم يتعد عمره ال19 سنة الموت بعينيه، بعد أن سافر بصحبة زملائه إلى سوهاج لحفر بئر هناك، ورغم جسمه النحيل فإنه تعود على حمل المواسير ثقيلة الحجم لكن توازنه اختل هذه المرة وسقطت عليه «الوصلة» التى يزيد وزنها على 500 كيلوجرام ظل على أثرها طريح الفراش بمستشفى أسيوط الجامعى ثم نقل إلى مستشفى آخر بالجيزة» وقال: «أنا لسه ماخفتش ضهرى فيه فقرتين مكسورين وركبت شريحتين، المقاول ساعدنى فى العملية بس بعد كدا خلاص أنا مع نفسى أنا وحيد على 4 بنات ووالدى متوفى منذ 13 سنة ودخلى من 8 شهور مفيش». وتابع: «أنا مش هقدر أشتغل فى القيسون تانى ما أنفعش خلاص».
وفى بيته رقد عماد جلال «18 سنة» ورجله موضوعة فى الجبس بعد أن أصيب بشرخ فى القدم تسببت فيه حديدة من معدات حفر البئر عندما كان بالبحيرة، ورغم السنوات الست التى قضاها فى العمل ب«القيسون» فإنه لم يستطع تجنب إيذائه وسيظل هكذا طريح الفراش لمدة شهر.
قابلنا فتحى أحمد على الخولى، أحد مقاولى «القيسون»، وتحدث معنا بصراحة غير عادية وفتح الصندوق الأسود، وقال: «عملت بهذه المهنة منذ عام 1978 وكنت مجرد عامل عادى حتى اشتركت مع إخوتى الستة فى شراء معدات وآلات حفر ومن وقتها أصبحنا مقاولين». وأضاف أن «هذه المهنة كلها خير ومن يحصده هم المقاولون فقط لكن العمال مفحوتين ومفيش ليهم دية غير شوية جنيهات بنرميها لو حصل ليهم أى إصابة أو حتى ماتوا». وتابع أن القرية تستقبل فى كل شهر حوالى 10 إصابات ما بين كسور وجروح متفاوتة تصل أحياناً إلى حد العاهة المستديمة لا يستطيع العامل بعدها العمل فى «القيسون» أو أى مهنة أخرى، ووصل عدد الذين ماتوا خلال آخر 10 سنوات من القرية بسبب هذا العمل حوالى 150 شخصا، وقال: «إن الغلطة فى المهنة دى بفورة على طول لأنها شاقة وكل معداتها تقيلة جداً، ولا يعمل بها إلا الشاب القوى لذلك عمرها الافتراضى للرجال ينتهى عند سن 45 وربما أقل».
وأضاف قرية الرهاوى يوجد بها 7 آلاف عامل بالإضافة إلى حوالى 500 مقاول، كلهم الآن مليونيرات، لكن العامل الغلبان هو الضحية دائماً، وتابع: «أنا متعاطف معهم لأنى كنت زيهم»، وقال إن «عدد المقاولين ضخم بالقرية وأغلبهم يظلمون العمال ويشتروا أراضى وعربيات وبيوت من دم الغلابة دول، وأقل رأسمال يبدأ به أى مقاول 100 ألف جنيه، لكن إذا كان المقاول يعمل فى جسات الصرف الصحى فمن الممكن أن يبدأ ب50 ألف جنيه».
يرجع الفضل إلى عبدالهادى وأخيه سليمان حسن جبريل وإبراهيم الرملاوى فى دخول مهنة «القيسون» إلى قرية الرهاوى، بعد أن نقلوا سر المهنة من منطقة السبتية بوسط القاهرة، بعد أن عملوا مع أبادير بشاى وفتحى حنا داود لفترة طويلة، لكن حتى عهد الرئيس جمال عبدالناصر كان أهل قرية الرهاوى يعملون بهذه المهنة كعمال فقط، ومع عصر الانفتاح فى عهد الرئيس أنور السادات استطاع بعض العمال شراء معدات وأصبحوا مقاولين، ووصل عددهم الآن إلى أكثر من 500 مقاول، أصحاب التراخيص منهم لا يزيد على 20 مقاولاً، وهذا يعنى أن كل الباقين يتهربون من الضرائب، وأضاف: «أنشأنا جمعية لحفر الآبار الارتوازية بالرهاوى لم ينضم إليها سوى 50 عاملاً فقط».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.