ارتبطت الوطنية فى حياة العرب المعاصرين فى الغالب الأعم بالأقوال أكثر من الأفعال، أو بالتنظير أكثر من الممارسة، وبالعواطف أعلى من العقل، وبالأيديولوجيات قبل الفهم الموضوعى والواقعى. ولفتت هذه المسألة انتباه كاتب بمكانة تركى الحمد فرأى أننا فى العالم الثالث عامة نتحدث كثيراً عن الوطن والوطنية، ونملأ الأسفار الضخمة عن معناها ومبناها، بينما يمارس الناس فى البلاد المتقدمة وطنيتهم من دون أن يفكروا فى هذا أو يعلنونه ليل نهار. ويرى أن صانع الأحذية لو أتقن عمله فهو أكثر وطنية من زعيم لا همّ له فى خطبه سوى الوطنية، وأب يزرع قيمة العمل فى ابنه هو أكثر وطنية من وزير يتحدث عن الوطن دوماً. ورغم أن الروح الوطنية مخبوءة بين جوانح المرء، ولا يحاسب الفرد عن غيابها إلا إذا اتخذ من السلوك ما يقر بذلك، أو ما يضعه فى تعارض مع مقتضيات الوطنية، فإن الدول جميعها تريد من مواطنيها أن يظهروا هذه الروح حتى ولو كانت مصطنعة، مثل ما فعلته منظمة MPAC حينما وجهت المسلمين الأمريكيين إلى الخروج من بيوتهم للاحتفال بالرابع من يوليو (يوم الاستقلال) فى وقت كانوا فيه منقوصى المواطنة، ومغبونين من سوء المعاملة بعد أحدث 11 سبتمبر 2001. لكن فى جميع الأحوال فإن هذه الروح تعد قيمة خلقية سامية، منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة، وهى تكمن فى حب الإنسان الفطرى لمسقط رأسه، أى المكان الذى ولد فيه وترعرع، وفيه عاش أبوه وأجداده، وغيرته عليه، وحرصه على الارتقاء به وإنهاضه، والاستعداد التام للذود عنه وحمايته من أى معتد غاصب، واعتباره دوماً الملاذ الأخير، ليس للأوغاد كما قال جونسون، ولكن للأسوياء، ورحم الله أحمد شوقى الذى أنشد فى بيت خالد من الشعر: «وطنى إن شغلت بالخلد عنه... نازعتنى إليه فى الخلد نفسى» وقال الجاحظ: كان النفر فى زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه فى جراب يتداوى به، ويبلغ الأمر مداه مع شاعر عربى آخر قال: «بلاد ألفناها على كل حالةٍ وقد يؤلف الشىء الذى ليس بالحسن وتُستعذب الأرض التى لا هواء بها ولا ماؤها عذب ولكنها الوطن!» إلا أن المؤرخ الهولندى الشهير يوهان هويزنجا يرفض اقتصار «الوطنية» على هذا الزخم العاطفى، بل يمدها إلى مجال العقل فيقول: «إن فى لفظة الوطنية شيئاً من الإدراك الشعورى الواعى.. فهى تعبر عن اقتناع بالتزام يقيد صاحبه تماماً نحو الوطن، التزام لا يحدده سوى ما للضمير من مبدأ سام مرشد». وهذا الإدراك قديم قدم الإنسان نفسه، فالوطنية فى نظره كانت موجودة لكن بألفاظ مختلفة معادلة لها، والتغير الوحيد الذى جرى فى القرون الأخيرة أن اللفظ بات أكثر تحديداً، أما ما عدا ذلك فكل ما يتعلق بالوطنية ظل على حاله، كغريزة بدائية فى المجتمع البشرى. (نكمل غداً إن شاء الله تعالى)