عمامة بيضاء عريضة تلتف حول جبهته البيضاء.. نظارة سوداء ترتفع فوق عينيه لحمايتها من «لمعة» النيران التى يقف أمامها لمدة تزيد عن عشر ساعات يوميا.. ملابس قطنية خفيفة تمتص عرقه الذى يتصبب فوق جسده النحيف.. وإناء صغير مملوء بالمياه وضعه بجواره ليمسح به وجهه من وقت لآخر حتى يتمكن من استكمال صيام يومه الذى يقضيه داخل المخبز. سبعة وثلاثون عاما قضاها «عم على» فى مهنة «الفران» يقف فيها أمام شعلة المخبز منذ الساعة السادسة صباحا وحتى الرابعة عصرا، يتوقف فيها عن متابعة ما يحدث حوله سواء داخل الفرن الذى يعمل فيه أو خارجه خوفا من إتلاف العيش أو التأخر فى رميه على سير الفرن حيث يقول: «زحام الزبائن على شباك الفرن يجعلنا نشتغل بأقصى طاقتنا حتى نتمكن من إرضاء الجميع، بالإضافة إلى رغبتنا فى إعطاء صاحب المخبز حقه، الأمر الذى لا يمكننا من متابعة الأحداث، لأننا بناخد فلوس مقابل شغلنا ولازم نعمل بيها». الرجل «الستينى» الذى يعول أسرة مكونة من ثمانية أفراد يرى أن تأثير تعاقب «فصول السنة» عليه وعلى زملائه داخل الفرن ضعيف للغاية -إن وجد- والسبب فى ذلك يرجع إلى ارتفاع حرارة الفرن لدرجة عالية لا تعطى لأحد الفرصة للشعور بحالة الجو فى الخارج، باستثناء شهر رمضان الذى يلجأ العمال فيه لعمل استعدادات خاصة تعينهم على الصيام، تتمثل فى عدم التعرض المباشر لنيران الفرن ووضع قطع من الأقمشة القطنية المبللة بالمياه على رؤوسهم وتزويد المخبز بعدد من المراوح «لأن الجو بيبقى حر أوى وريقنا بينشف»، بالإضافة إلى فتح جميع النوافذ لترطيب الجو، أما فى حالة قدوم شهر رمضان فى فصل الشتاء فلا يتم عمل تلك الاستعدادات «لأن الجو بيبقى ساقعة واحنا ما بنصدق نخلص شغل علشان ننام جوه الفرن فى الدفا». طاولات خشبية مليئة بأقراص العجين تتراص بجوار بعضها أمامه، ارتفاع شديد فى درجة حرارة سير الفرن تدفعه لمحاولة تخفيف حدتها بواسطة بعض الأقمشة المنغمسة فى المياه، سرعة فى إلقاء العجين داخل الفرن تلبية لنداء «السحال» الذى لا يكف عن مطالبته بتزويد أعداد الأرغفة التى يلقيها داخل الفرن، وعشرات الزبائن الواقفة أمام شباك منفذ البيع تمد أيديها بداخله من أجل الحصول على حصتها من الأرغفة. «شهر رمضان بالنسبة لى فرصة كويسة للعبادة، باحس ان كل نقطة عرق بتنزل منى بتغسل ذنوبى وبتقربنى من ربنا أكتر»، يضيف «عم على»: صيام رمضان داخل المخبز له كثير من الروحانيات التى لا توجد فى مكان آخر أهمها «لمة» السحور التى تجمع كل العمال فى المخبز مع بعضهم، وتوقف العمل لتأدية الصلوات فى وقتها، والإفطار المجمع الذى يتم عدة مرات داخل المخبز، وعن لجوء بعض عمال المخابز للإفطار فى رمضان بحجة عدم قدرتهم على الصيام بسبب ارتفاع درجة الحرارة داخل المخبز يقول: صيام عمال المخابز يكون بالتعود والسنة الأولى للعامل داخل المخبز تحدد له مصير السنوات التالية، بمعنى أنه لو تمكن من إجبار نفسه على الصيام منذ اليوم الأول يتمكن من مواصلة الصيام بعدها دون عوائق، وفى حالة إفطاره لا يتمكن من الصيام مرة أخرى، وغالبا ما يكون المفطرون من العمال صغار السن الذين لا تزيد أعمارهم على العشرين عاما.