المصالحة فكرة، بينما عدم الإقصاء مبدأ. الأفكار قابلة للتغير، والمبادئ تظل ثابتة مهما حدث. قبل أيام كان حديث المصالحة (مرطرط) فى كل مكان، لكن حتى (المثالية) سيدهسها الجميع إذا خرجت فى توقيت خاطئ، وبعد ما حدث خلال الفترة السابقة لا أعتقد أن المصالحة سيكون لها أى معنى من أى نوع. نحن أمام طرفين ليس لديهما أى استعداد للحوار، وكل طرف يرى الآخر خائناً، وقاتلاً، والدماء فى يده، وكل طرف يرى أن ما يفعله هو «الحق» وما سواه هو «الباطل»، وبالتالى لا معنى أصلاً للمصالحة، لأنها لن تحدث، ولا يوجد فى السياسة مبدأ «خالصين» الشهير الذى يمكن تطبيقه على خناقات الشوارع، ولا يمكن تطبيقه أبداً على الوضع الراهن فى مصر. المطالبون بالمصالحة كانوا طرفاً واحداً يتآكل الآن بشدة أمام إصرار الطرف الآخر على (التمادى) فى كل شىء، أملاً منه فى تحسين شروط أى تفاوض مستقبلى سيحدث رغم أنف الجميع. المطالبون بالمصالحة أشخاص مثاليون يتعاملون بمبدأ «هيا نطبطب على بعض ونحضن بعض»، بينما منصة رابعة لا تزال على تحريضها، وعلى مبدئها الذى يعتبر ما حدث «انقلاباً»، وبالتالى لا تصالح مع «المنقلبين». لن يكون للمصالحة أى معنى من أى نوع، وكل طرف يمسك بسكين خلف ظهره منتظراً أن يغرسه فى خصمه فى أى لحظة، ولن يكون لها أى صدى عند أناس حولوا الموضوع لمعركة «بقاء» ولا يزال خطابهم كما هو لم يتغير، بل لو وضعت نفسك مكانهم ستجدهم يرونك قاتلاً مغتصباً لسلطتهم التى لم يحافظوا عليها ولم يحترموها ومع ذلك لا يريدون لأحد أن يأخذها منهم. طيب.. ما المطلوب؟ أقول لكم.. من الآخر، انسوا المصالحة.. مفيش مصالحة.. امشى يا مصالحة. وفى نفس الوقت، فليتقبل الجميع الوضع الراهن، وليبقَ كل منكم فى مكانه، وليدع كل طرف على الآخر وليستقو كل طرف بمن شاء على الآخر، حتى نجعل لعنة الله على الظالمين. لن يستطيع أحد أن يقصى الآخر بالمناسبة، لكن هناك إقصاء شعبياً سيحدث، وقد بدأ بالفعل. هناك مصيبة أتوسل إلى الله عز وجل ألا نعود معها لأيام التسعينات، حين كان الجميع يشكون فى أى ملتح أو متدين ويعتبرونه إرهابياً وينسبون له أى عنف، وهذه المصيبة لا يريد أن يفهمها الإخوان ومن معهم، وهى أن رصيدهم الذى كانوا يتفاخرون به عند الشارع والبسطاء آخذ فى التناقص، وأوشك -فعلاً- على النفاد، ولن تجدى معه حالة الابتزاز الدينى التى يمارسونها بين الحين والآخر على منابر المساجد لإعادة الأمر إلى مربع المعركة الدينية واعتبار ما حدث ضد الإسلام، لأن الواقع فرض نفسه على البسطاء الذين أدرك كثير منهم أن الأمر سياسة وخناقة سلطة لا أكثر ولا أقل، لدرجة أن كثيرين منهم أصبحوا يشمتون (بالمعنى الحرفى لكلمة شماتة) فى أى دم يراق فى صفوف الإخوان ويتعاملون معه بمبدأ «يستاهلوا»، وبدلاً من أن يدرك الإخوان ذلك، لا يزالون فى ضلالهم وغيهم، ولا يزالون يقضون على أنفسهم بمزيد من التحركات الغبية، ومزيد من التحريض والحشد فوق منصة رابعة العدوية، ومزيد من الابتزاز الدينى الرخيص، لدرجة أن صفوتهم حجازى بدأ يبتزّ ويهاجم الشيوخ الذين آثروا الصمت أو انسحبوا من المشهد، لأنه يعلم أنه لن يربح فى معركته دون حشد دينى. بالطبع سيصبح الحديث عن عدم الإقصاء غير منطقى عند البعض، وغير مقبول عند الكثيرين، وربما يطالب البعض باستبدالهم بتيار دينى آخر أو إجراء عملية إحلال وتبديل لينزل النور إلى الساحة بديلاً عن الإخوان، وهو أيضاً ما سيرفضه كثيرون، لكن دعونى أذكّركم بأن إقصاء الإخوان سيعيدهم إلى مرحلة هم يحبونها ويجيدون تمثيل أدوارهم فيها جيداً وهى مرحلة «المضطهدين» و«الضحايا». ولا أظن أحداً يريد أن يعيدهم إلى تلك المرحلة التى تثير مع مرور الوقت «تعاطف» البسطاء والعوام ومحبى مشاهدة الدراما التركية، التى علمتنا أن المسلسل لا ينتهى بعد 30 حلقة، وأنه صالح للاستمرار لأكثر من ذلك بكثير. ووجودهم سيسمح لهم بالمزيد من الأخطاء، وبأن يكونوا شماعة جاهزة لكل من يحكم مثلما كان الفلول شماعة جاهزة للإخوان حين كانوا يحكمون.