دقات الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا، أشعة الشمس الحارقة تدنو من الرؤوس، وتغطى أجواء المكان، هياكل الأوناش الضخمة تلوح فى الأفق بطول منطقة «شق التعبان» جنوب المعادى بالقاهرة، ألوانها متعددة ومرتفعة فى السماء، سيارات النقل المحملة بقطع الرخام الثقيلة متراصة بمدخل أشهر منطقة تصنيع رخام فى الشرق الأوسط، خيمة كبيرة بها مائدة رحمن لإفطار الصائمين، تقع بجوار طريق الأوتوستراد المطل على المنطقة. شوارع «شق التعبان» مملوءة بالتراب والغبار، حركة سير المارة والسيارات بها لا تهدأ، العمل منتظم بشدة، المصانع والورش لم تغلق أبوابها فى نهار رمضان، خارج أحد المصانع وقف أحمد محمد، 21 سنة، بصحبة عدد من الشباب والأطفال يلتقطون الأنفاس استعدادا لحمل قطعة رخام كبيرة إلى داخل المصنع على عجلة صغيرة من الحديد، بعد جهد غير قليل، يتصبب بعضهم عرقا أثناء رفع لوح الرخام فى ظل ارتفاع درجة الحرارة منتصف النهار، «هو كدا شغل صعب، دا فيه شغل أصعب من كدا بكتير انت ما شفتش حاجة لسه، دا فيه ناس بتتعور وبتموت فى مهنتنا ديه ولا حد بيعرف عنها حاجة» هكذا يقول أحمد ابن منشأة ناصر الذى يتقاضى 60 جنيها يوميا نظير عمل 8 ساعات. توقف حركة يديه دقائق قليلة ثم أكمل: باصرف كل يوم 20 جنيه مواصلات وأكل وشرب، وبيتبقى 40 جنيه، هيعملوا إيه فى أيامنا ديه». وسط ضجيج الماكينات داخل الورشة يستكمل أحمد حديثه قائلا: أعمل بالرخام منذ 4 سنوات ولدى خبرة لا بأس بها فى هذا المجال ورغم ذلك «يومياتنا زى ما هى، كل حاجة بتزيد ما عدا أجرتنا، رغم أنها شغلانة فاعل وشقا وعاوزة عافية وصحة». يتجاذب أطراف الحديث منه شاب آخر اسمه أشرف يحيى، 25 سنة، من المقطم، ويقول منفعلا: الشغل فى رمضان لا يختلف كثيرا عن غيره من الشهور، «صاحب الشغل مش فارق معاه رمضان وغيره أهم حاجة نعمل الشغل المطلوب مننا والأجرة هى هى». يصمت قليلا ثم يخرج من باب المصنع ويتجه يسارا ثم يمسك «بصاروخ» ويقول: «شايف الصاروخ دا بيعمل إصابات كتير بينا، وممكن يعمل عاهات مستديمة كمان»، ثم يسير بعض الأمتار ويتوقف أمام مجموعة من ألواح الرخام الكبيرة المسنودة على سور المصنع ويشير إلى خط مرسوم بطول اللوح الرخامى صاحب اللون الأبيض المموه بالأصفر ويقوم بتشغيل «الصاروخ» ثم يدفعه نحو اللوح بقوة، فتنقبض عضلات الجسد والوجه بعد ذلك يرتفع صوت «الصاروخ» أكثر، وينتشر الغبار حول الشاب حتى يقسم اللوح إلى نصفين. يتوقف صوت «الصاروخ» للحظات ويشير أشرف إلى مقدمته الدائرية الحادة ويقول «السن دا وانت شغال ممكن يطير وييجى فى وشك أو بطنك، هتروح المستشفى تتخيط كام غرزة، وتروح تقعد فى بيتكم، صاحب الشغل لو راح معاك المستشفى ودفع لك تمن الكشف يبقى كتر خيره». وتابع أشرف: نعمل هنا منذ سنوات دون تأمينات أو أى حقوق، لذلك نخشى من المستقبل والمجهول. أصحاب المصانع بيحققوا أرباح خيالية وبيدونا الفتات، يومياتنا ضعيفة وأجرنا هزيل، يدوب بيخلينا نعيش، النهارده عندى صحة وأقدر أشتغل، بكرة مش هعرف لما أكبر فى السن». العمل بالمصانع الصغيرة ينقسم إلى عدة تخصصات وأدوار كل عامل يؤدى عمله المطلوب منه بانتظام بداية من «الجلىِ» الذى يقوم بتجلية الرخام ثم «المكانجى» الذى يقوم بتقطيع الرخام بالمنشار بشكل آلى، بالإضافة إلى عامل «التارة» الذى يقوم بلفها بسرعة لسحب الرخام على «طبلية» التقطيع. رئيس العمال شاب عشرينى يعمل مع العمال بنفسه يسمونه «الكوماندا»، يقودهم لإنجاز المهام المطلوبة منهم قال «إحنا هنا كفرانين من الشغل وعاوزينهم يزودا الأجرة شوية». بعد رفع ألواح الرخام الثقيلة على الطبلية يقوم الطفل شعبان محمد، 15 عاما، مسرعا بلف التارة، يقول الطفل أعمل بالمهنة منذ 3 سنوات ويوميتى لم تزد عن 15 جنيه، «لف التارة مش شغلانة سهلة، بالعكس دى بتوجع الضهر لأنها بتحتاج مجهود فى نفس الوقت اللى بيكون ضهرى محنى فيه». أمام بوابة مصنع مجاور وقف علاء محمد الشهير بأبوياسمين، 30 سنة، مرتديا فانلة داخلية ذات لون رمادى، يراقب الوضع بالشارع، ثم سارع بالدخول إلى المصنع ليحتمى من أشعة الشمس الحارقة، يقول علاء: «مخاطر العمل فى الرخام كبيرة حيث يصاب عدد كبير من زملائنا أثناء العمل بسبب ثقل وزن قطع الرخام ووقوعها على العمال فجأة بالإضافة إلى إصابتهم بأمراض «الفتاق» جراء حمل الأوزان الثقيلة. يتنهد علاء وتتغير ملامح وجهه المبتسم وينظر إلى خارج المصنع ثم يكمل «منذ 6 شهور سقطت «طاولة» رخام يقصد مجموعة من الألواح على زميلنا «رمضان إبراهيم»، 30 سنة، من الفيوم، وتم نقله إلى المستشفى وخضع لعدة عمليات جراحية قام فيها بتركيب 19 مسمارا وشريحة، مكث على أثر الإصابة 3 شهور كاملة، اكتفى صاحب العمل بالوقوف بجانبه ومساعدته فى بداية الإصابة ثم تركه وشأنه حتى عاد إلى العمل من جديد، لا يستطيع رمضان العمل إلا 3 أيام فى الأسبوع فقط بسبب إصابته، ومع ذلك يطلب منه صاحب المصنع تنفيذ كل ما يطلب منه دون رحمة يعامله كالسليم رغم أنه مصاب أثناء عمله بمصنعه». ويكمل: «مفيش رحمة دلوقتى دول عاوزين يمصوا دمنا ويرمونا زى الكلاب أهم حاجة مصلحتهم وبس، أصحاب المصانع هنا فى شق التعبان بتكسب ملايين وما بتسألش فينا لو الواحد حصل له حاجة». واستطرد قائلا: رغم أن عدد عمال الرخام فى شق التعبان يزيد عن 60 ألف عامل فإنه لا توجد رابطة تجمعهم أو نقابة تطالب بحقوقهم المهدرة، يوجد فى المنطقة نقطة إسعاف ومرور ومطافى لكنها لا تعمل، معظم الناس هنا فى شق التعبان بيفطروا فى نهار رمضان عشان شقا المهنة، هنعمل إيه شغلانتنا عاوزة صحة. إلى جوار علاء وقف شاب ثلاثينى -رفض ذكر اسمه- أمسك برغيف من الخبز ووضع فيه قطعة جبن وقام بأكله، ثم همس الشاب قائلا: «أوعى تصورنى وأنا باكل، لو أمى شافت الصورة هتبهدلنى، إحنا ما بنقدرش نصوم وإحنا شغالين»، يصمت قليلا قبل أن يختتم حديثه قائلا: «أصحاب المصانع دول ما بيدفعوش ضرايب خالص وبيكسبوا ما شاء الله كتير وإحنا اللى مظلومين فى النهاية».