تحدث عن خناقة كوليبالى وهروبه من النادى الأهلى، تجد آذاناً مصغية. تطرق إلى كرتونة البيض ذات ال45 جنيهاً والدجاجة ابنة ال43 جنيهاً، تضمن تركيزاً عالياً ومشاركة إيجابية. افتح باب كارثة قطر وموقف الخليج ودور مصر، يتوافر لك بدل الرأى مائة، ومكان المستمع ألف مُنَظِر. انكش فى بُعبع البيوت وهِسهس الأهل وكابوس الأبناء فى ما يختص بالثانوية العامة، يتحول النكش حراكاً شعبياً وزخماً ثورياً. طالب بمنع مكبرات الصوت فى الصلوات واحترام حق الآخرين فى الراحة أو الهدوء، أو حتى مجرد اختيار ما يسمعون، تباغتك كتائب المكفرين وجيوش المصابين بهسهس التديين. لكن ما إن تعرب عن أسفك على تدنى الأخلاق وتحلل السلوكيات وتبخّر الأدب وبديهيات المكارم وقواعد المعاملات، فتجد أحد ردود الفعل التالية: إما لصق التهمة بصعوبة المعيشة، وغلاء الأسعار وضغوط الحياة، أو إلقاؤها فى ملعب الآخرين، حيث ادعاء الالتزام والاعتقاد بأن المشكلة تكمن فى هؤلاء وأولئك، وليس أنا ونحن، أو اعتماد أسلوب مقارنات خائب، حيث «نحن أفضل من غيرنا»، أو العودة إلى هسهس التديين، حيث «من ساعة ما قفلوا القنوات الدينية، وضيّقوا على المشايخ والدعاة والأخلاق من سيئ إلى أسوأ»، أو التظاهر بأن المستمع «من بنها»، فالموضوع لا يعنيه، والقصة لا تهمه، والمسألة ليست مهمة بقدر «كوليبالى» أو حامية بمقدار قطر و«ترامب» ومصر والسعودية، أو مؤثرة تأثير البيضة التى باتت عزيزة، والدجاجة التى صارت شحيحة. شُح الأخلاق الواضح وضوح شمس يونيو الحارقة، وتبخر الشهامة وتبدّد الجدعنة وشيوع أخلاق الغابة، بديلاً عن أخلاق القرية (ربما لأن أهل القرية إما هجروها إلى خرسانة المدينة أو حولوها إلى خرسانة) لا يشغل بال الغالبية. تحول المصريين فى الشارع إلى قنابل سلوكية موقوتة، وألغام أخلاقية تُهدّد بالانفجار فى وجوه أنفسهم ومن حولهم لا يشكل مادة تستحق التفكير أو تستدعى التنظير والتحليل. وضرب الأغلبية عرض الحائط بالقوانين الوضعية، ومعها الأعراف والتقاليد، لا ينافس سعر كرتونة البيض، أو وضعية مكبرات الصوت فى المساجد. المسجد الذى تخلى طويلاً عن دوره فى زرع مكارم الأخلاق وتوضيح دور المعاملات الذى لا يقل أهمية عن ممارسة العبادات أسهم بقدر غير قليل فى ما نحن فيه من شيوع أخلاق الغيلان وتسيُّد قيم السوقة والدهماء. عقود طويلة أصبح الهم الأوحد والشغل الشاغل لمشايخ تحت بئر السلم والزوايا التى احتلت حرم الأرصفة وشيدت على القلة القليلة من الحدائق والمتنزهات وسدت طرقات الشركات والمؤسسات، من يكفر من؟ ومن يعلى صوته على صوت من؟ وكيف نعاشر الزوجات؟ ولماذا نتزوج ثانية وثالثة ورابعة؟ وحتمية ترديد دعاء الركوب، وصيرورة التمتمة بدعاء النزول، وحجة قراءة القرآن بصوت جهورى فى وسائل المواصلات العامة لدرء الشيطان وجذب الركاب للإسلام، ووجوب غلق الطرقات وتعطيل الأعمال أثناء ساعات العمل من أجل الصلاة جماعة، وعلى المتضرر ضرب رأسه فى أقرب حائط وإلا اتهمناه بمحاربة الدين ودك أواصر التديين، وهلم جرا. وقد جرت الأخلاق والسلوكيات فى مصر بما لا تشتهى الأمم التى ترغب فى التقدم أو تفكر فى التحضر أو تأتى على بالها فكرة التميّز الإنسانى. ومن نكد الدنيا على المصرى أن يتذكر مستوى الأخلاق الذى كان سائداً فى مصر قبل ثورة يناير 2011 بكثير من «النوستالجيا» وبقدر غير قليل من الحنين إلى زمن الأخلاقيات الراقية والسلوكيات المتحضّرة. وجميعنا يعلم أن أداءنا الأخلاقى وتصنيفنا السلوكى فى هذه الآونة لم يكن أبداً مثالاً يُحتذى أو نموذجاً يشتهى. الشهوة التى تراها واضحة مجلجلة فى عينى الأخ الملتزم وهو يتفحص ما قد يكون خلف طبقات الملابس الكثيرة التى ترتديها سيدة فى عمر أمه أو طفلة فى عمر حفيدته تدفعنا دفعاً (لكنها لا تفعل) إلى إعادة وضع تعريف آخر لمعنى الالتزام. والالتزام الذى يجعل من مصر (أو بالأحرى فئة كبيرة من رجال مصر) على رأس قائمة الدول الأكثر تحرشاً بالإناث، رغم أن الغالبية منهن تحجبن أو تنقبن، يطرح استفساراً مهماً عن دواعى التحرش لدى الذكور المصريين. هل هو جمال الإناث المصريات المفرط؟ أم الكبت الجنسى؟ أم القهر السياسى؟ أم الضغط الاقتصادى؟ أم قلة التربية وانعدام الوازع الدينى؟ الوازع الدينى لا يحله كشك للفتاوى فى محطة مترو الأنفاق، أو صورة سيوف مثبتة على زجاج السيارة الخلفى، أو صوت القرآن الكريم يصدح بأعلى صوت فى نهار رمضان وليله، أو الإفتاء فى شأن العقائد الأخرى. وهذا النوع من الوازع الدينى لا يُصلح الأخلاق الفاسدة أو السلوكيات المنحطة، وذلك لأنه يبقى على العبادات منفصلة كل الانفصال عن المعاملات. وما جرى فى مصر هو أن العبادات كلما كانت كاملة وظاهرة، استمر ظن الشخص بأنه فى التمام، وليس فى الإمكان أفضل مما كان. أما السلوكيات والأخلاقيات، ما ظهر منها وما بطن، فقد تحولت إلى حديث نظرى وأمر هامشى وقضية لا تهم أو تشغل سوى قلة قليلة ينظر إليها باعتبارها مجموعة تافهة أو سطحية أو غير فاهمة. وعلى رأى الراحل الجميل صلاح جاهين (بتصرف) تشوف حلاوة تدينك تعبدك، لكن أنت لو بصيت لأخلاقك وسلوكك تنتحر.