برغم أن المصريين غيروا دينهم عبر العصور فإنهم ظلوا باستمرار تحت راية كل دين شديدي الاهتمام بالتدين. من عقائد الفراعنة إلى المسيحية إلى الإسلام تغيرت الديانة لكن بقى التدين جلياً في تصرفاتهم. الدين هو العقيدة او النص الذي يؤمن به الناس سماوياً كان أو وضعياً. أما التدين فطريقة تعامل الناس مع هذا النص. هو المعنى الذي يعطونه للدين والسلوك الذي يعبرون به عن فهمهم له. وكل من يلتفت إلى تدين المصريين خلال نصف القرن الأخير فقط لا بد وأن ينزعج بسبب غلبة التدين الشكلي الطقوسي على التدين الجوهري السلوكي. يحتار من يدرس الشخصية المصرية كيف يوفق بين تراجع الأخلاقيات مثلاً وزيادة أعداد دور العبادة، بين انتشار المفردات الدينية والألفاظ النابية معاً، بين إقبال النساء على الحجاب وزيادة التحرش بهن، بين حرص البعض على الصلاة وقبولهم للرشوة. هذا التناقض بين الدين والتدين لا يعيب الدين بالمرة وإنما ينال وينتقص من التدين. وتدين كثير من المصريين يبدو عياناً بياناً أنه ناقص طالما بقي الجانب المدني لخوفهم من الله غير مرعي مثلما يراعون الجانب الطقوسي التعبدي. هذا الجانب الأخير مهم ولا نقاش فيه، لكنه لا يعبر بشكل كامل عن الخوف والورع الإيجابي من الله. وأنا لا أملك معاذ الله صلاحية تقييم إيمان الناس أو درجة خوفهم من الله. فلست إلا عبداً يخضع للحساب. لا يجوز لي الحكم على صلاة وصلاح وعبادات ونيات الناس لأن هذه مسائل لا يعلمها إلا الله. لكن ثمة جانبا آخر مدنيا للخوف من الله جعله عز وجل ظاهراً فرض فيه على الناس واجب التناصح حتى يعملوا على تحسين حياتهم وطرق معاملاتهم من الحرص على النظافة والنظام إلى التزام آداب الطريق والوفاء بالوعد إلى احترام المواعيد وإتقان العمل وعفة اللسان. فهذه التصرفات المدنية وغيرها تعكس درجة الخوف من الله، وتكشف بجلاء عن مستوى الورع الاجتماعي العام. إنها أبواب مدنية واسعة للأجر والثواب لا تقل أهمية عن الأبواب التي يفتحها الالتزام بالفروض. فالخوف من الله له جانبان ديني ومدني، عبادات ومعاملات. لا يتم واحد منهما بدون الآخر. ولا يعاني المصريون وحدهم من نقص الخوف المدني من الله وإنما يعاني آخرون مثلهم من نفس المشكلة بسبب تقديمهم للشكل على الجوهر والاكتفاء بالعبادات على حساب المعاملات. لكن مشكلة المصريين ربما باتت تستلفت انتباه القاصي والداني بسبب حجمهم السكانى، وتأثير إعلامهم إقليمياً وتعويل كثيرين في المنطقة عليهم ليقدموا القدوة والنموذج الأخلاقي المفقود. وقد جرى تساؤل لسنوات بين عدد ممن النابهين عما جرى للمصريين وأخلاقهم العامة. وما جرى ببساطة هو أن كثيرين منهم فصلوا عباداتهم عن معاملاتهم، وكأن للعبادات دينا وللمعاملات دين آخر. مثل هذا الفصل هو الذي أوصلنا إلى تلك المفاضلة الزائفة بين الديني والمدني. وكأن الديني لا يتقاطع مع المدني وكأن المدني لابد وأن يخالف الديني. وتلك مغالطة خطيرة لأن المتدين السوي يجب أن يخشى الله في عباداته وفي معاملاته معاً. فإذا كان المسلم مثلاً يتعبد بالصلاة خمس مرات يومياً لمدة تقل عن ساعة فإنه يحاسب أمام الله في كل تصرفاته المدنية أربع وعشرين ساعة. مشكلتنا أننا نركز على ما يجب أن يفعله الناس لساعة، ونهمل ما يجب عليهم أن يقوموا به طوال الأربع وعشرين ساعة. تغاضينا عن الجانب المدني للخوف من الله وصورنا الخوف منه عز وجل فقط على أنه في التزام الطقوس. فكان أن انتهينا إلى تناقض بين عبادات تُراعى ومعاملات لا تُراعى. أناس يسارعون إلى المسجد بالذات يوم الجمعة، وهذا رائع. لكنهم على سبيل المثال لا الحصر يزيحون أحذية بعضهم البعض عند الدخول والخروج في شكل مقزز لا يليق بمقام المسجد وقدره. هذا التناقض بين الجانبين الديني والمدني للخوف من الله يكشف عن نفاق اجتماعي واسع. فتجد الناس يؤكدون كم أن دينهم يحث على النظافة، بينما شوارعهم لا تطاق. يتحدثون عن مآثر العدل في دينهم ويمارسون الظلم بشكل واسع الانتشار. لدينا باختصار انفصال حاد بين الخوف من الله دينياً وقلة الخوف منه عز وعلا مدنياً. بينما المتدين المتسق مع ذاته هو الذي يحفظ أوامر الله كاملةً في الجانبين الديني والمدني، بل ولا يستهين بالجانب المدني بشكل خاص لأنه العنوان الأبرز له ولدينه أمام العالم. والدولة ليست بعيدة عن هذه المشكلة لأن لها وظيفة أخلاقية يجب أن تؤديها. فالدولة تكوين مدني وليس دينيا ولهذا فهي الأصلح في حمل الناس على التفكير بجدية أكبر في الجانب المدني للخوف من الله. وقد فرطت الدولة المصرية لوقت طويل في أكثر وظائفها بما فيها الوظيفة الأخلاقية، الأمر الذي استغلته جماعات دينية عنيفة راحت تشوه عقائد الناس وتصرفاتهم على السواء. ولا يقل أهمية دور الأئمة ومن يعتلون المنابر ليخطبوا في الناس ويشكلوا وعيهم. بات أكثرهم روتينيا لا يهتم بتنبيه الناس إلى خطورة معصية الله في الجانب المدني. تشغلهم الطقوس أو يستهويهم التقريع دون أن يطوروا خطابهم أو يفهموا أن مهمتهم قبل أن يأموا الناس في الصلاة أن يجعلوا المتعبد شخصاً أنظف وأصدق وأهدأ وأوفى في كل تعاملاته المدنية. هذا الجانب المدني للخوف من الله هو ما يجب أن يتكلم فيه الأئمة والقساوسة أكثر ليعرف المصريون أن أبواب الجنة لن تفتح لمن يلوث الدنيا حتى لو استوفى كل العبادات، وأن الخوف من الله في المعاملات على نفس درجة تقواه بالتزام العبادات. وقتها سيكون للمصريين ثقافة مختلفة تعرف كيف تستفيد من خير الدين في صلاح الدنيا. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات