يجلس العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» أمام داره، فى الضاحية البعيدة على الجبل، وقد ابيضت الشمس، وبدا النهار مثل كل النهارات. كان يرتدى جلبابا أبيض وعلى رأسه طاقية مخططة شأن من درسوا علومهم فى الأزهر الشريف. هى الدنيا!!.. وسأل نفسه: كيف أصبحت الأمور؟! يعيش العم بإحساس من وصل آخر محطاته، يمضى سنواته، ويصغى لصوت وطنه، ويتأمل لون أيامه!! يؤمن أن ثمة أشياء كثيرة غير صائبة قد جرت بها المقادير، وأنه وعلى نحو لا يستطيع مقاومته، كان أحد الشهود على ما جرى. من زماااان يتذكر حين شخط العسكرى، ورفع صولجانه وقال: إنه حامى حمى الوطن والمدافع عن أراضيه. لحظتها تذكر العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» عندما كان غلاماً بعد، ورآهم يعودون من فلسطين منكسرين، وشاهد جراحهم، يأتون فلولا من غير بطولة، أو عزاء فيما غاب حيث وجه الله شقيقه الكبير الذى لم يعرف حتى الآن له قبرا!! يومها حزن مثل يتيم، وعرف معنى الهزيمة، وهمس فى نفسه: «للوطن شهداؤه». شخط العسكرى، ورفع هراوته، وأطلق ناره.. دوى الميدان بصوت ضرب النار.. تذكر العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» سنواته فى الخمسينات حيث المواكب والأناشيد، حين رآهم يدخلون المدينة على رأس جيش، ويطلقون شعارات الحرية والعدالة والاستقلال، ويهتفون «ارفع راسك يا أخى فقد مضى عهد الاستبداد» ورآهم يدقون الأرض بأقدامهم، بأحذيتهم الميرى، فيما تقف على أكتافهم النسور تتهيأ للطيران. فى ذلك الزمن أعاروه خارج البلاد مدرسا، وهناك مع سنوات الصحراء كان يعلم العربية، ويخطب الجمعة، ويعقد القران، ويحضر الأفراح، ويفض النزاعات، ويقرأ على المتوفى سورا من الذكر الحكيم، ويعالج المرضى ويصف الدواء، وعندما يعوزه الماء يركب جملا يحمله والجرار حيث عين النبع البعيد. فى 1956 قامت الحرب، وأخبروه فى الراديو أن الجيش قد انتصر على ثلاث دول كبرى، فحزم متاعه، وعاد لوطنه ليشاركه بهجة الانتصار. أخرجت 1956 العفريت من القمقم، واستبدل الزعيم نفسه بالوطن، والقيامة والقمر والتواريخ وحظوظ الناس وأولياء الله الصالحين وأهل العلم والناس على الشطوط والفنانين وأحلام خلق الله. وقع المقدر، وسلم سلاحه فى سيناء، وعاد مكسور الخاطر، أحس يومها العم مطاوع برائحة مثل رائحة الجيفة تهب على الوطن. اعتبر أن زمانا يولى ويفسح مكانا لزمن آخر.. حكمة ربك فى مداولة الأيام!! جاء آخر، ارتدى الميرى، وصنع انتصاره، وسلامه المزرى، ورأى العم «مطاوع» الأغراب يجلسون معه على المقهى.. فصول تتواتر، ودورة للتاريخ يعقبها دورة، والناس تنخطف روحهم، ويتأملون لون أيامهم!! شخط العسكرى، ودوت رصاصة فاختلطت الأصوات على ضفاف الميدان، وانفتح البلد، وجاء المال يجرى فى مجاريره.. مشاريع من وهم.. وطبقات تصعد من السفح إلى القمة.. يبيعون الهواء، والسم فى أكل الغلابة.. والعمائر على الضفاف.. والقصور فى الضواحى.. والعرى على شطآن البحار. شخط العسكرى ولم يطلق رصاصة.. هرش العم رأسه عندما تذكر هوية الناس، وصعود الدين، وغياب الدولة التى كان يعرفها صغيرا، وانتشار اللحى، والخباء التى سكنت فيه النساء!! دورة ودورة، وجرف التيار الطغاة والفاسدين والكذابين، وجاء البطريرك العجوز، يبارك، ويمعن فى هزيمته وكسله ومفارقة الخيال لعقله، وتزدحم الشوارع بناس ومواطنين لا لون لهم ولا شكل. يبعث فى الدم الخمول، يغادر قيم شعبه الأصيل. يتوقف «العم» لحظة، ويسمع من بعيد شخطة العسكرى الذى أمضى عمره حاميا للعروش، مدافعا عن أشخاص بعيدين عن الوطن وبشره.. للميدان صوت الرعد.. ولزحمة الناس فى الشوارع لون الاحتفال والأعياد. ولمطاوع عبدالصبور أبوالعزايم حسن الإصغاء. دورة جديدة ليتشكل عالم جديد. وأين الملاذ؟ وبالرغم من الأصوات التى تختلط بعنف الكلام.. زمن يغيب برموزه ومفاسده، والجيش يسور البلاد من قديم.. يسمعهم يتحدثون: الثورة لم تنجح فى تجاوز حلول الماضى.. والعسكر وضعوا الناس على مفترق الطرق.. اضرب الكل فى الكل تسقط بين يديك التفاحة.. مارس اللعب على الانقسامات.. يوارب الآن الباب، ثم ينفتح عن آخره ليدخل عبدالناصر آخر، وسادات آخر، ومبارك آخر.. انتبه.. إن ضاعت غرقت فى المحو.. يهرش العم رأسه، وبسبب من شيخوخته، بإحساسه بوطأة ما عاش من أحداث، يخاف أن تكون دورة الزمن هى، هى، والسنوات تفضى لسنوات، وهو يعيش مجريات الأمور بخوف السنين!!