كنا نتوقع أن يفسر البعض بنفسه سبب ومعنى كلام الرئيس «السيسى» فى مؤتمر الشباب بالإسماعيلية قبل ثلاثة أسابيع عن حرب 1967، وأن يتوصلوا بقليل من التفكير عن السبب الحقيقى فى انفعال الرئيس.. إنما وجدت العكس.. شخصيات عامة وسياسيون كبار التقيناهم منذ انتهاء المؤتمر وهم كغيرهم من عامة الناس يسألون السؤال نفسه: لماذا 67؟ ولماذا انفعال الرئيس ضد جمال عبدالناصر؟! وتمر الأيام وتتباعد بمؤتمر الشباب، ولكن لم تتوقف التساؤلات حتى وصلت إلى الصحف الأجنبية لكن يفرض السؤال نفسه: هل يهاجم «السيسى» جمال عبدالناصر باستمرار بذكرى حرب 67؟ أم أن العكس هو الصحيح، وأن سراً فى الأمر يحتاج إلى تفسير؟ نسترجع الأيام الكبيرة فى السنوات الأخيرة لنتوقف عند محطات شهيرة فيها.. نعود إلى 27 سبتمبر 2012 ولم تمر أسابيع على صراخ محمد مرسى فى ميدان التحرير: «الستينات وما أدراك ما الستينات»، التى كررها على أهله وعشيرته وتحرشات إدارية من رئاسة «مرسى» والإخوان بمقر ضريح جمال عبدالناصر بمنشية البكرى وسحب الحراسة منه واستعداد لإخلاء صالون الاستقبال ونقل محتوياته حتى المكتب الخشبى، إلا أن القوات المسلحة العظيمة تتقدم لتحمى الضريح وتقرر نقل تبعيته لها، وما هى إلا أيام ليخالف الفريق أول وقتها عبدالفتاح السيسى كل التوقعات ويصل قبل الذكرى السنوية لرحيل الزعيم الخالد بيوم ليحيها مع أسرته ومحبيه ليبقى فى الضريح نصف ساعة كاملة وليس ليضع أكاليل الزهور وينصرف، وكان بصحبته عدد من كبار قادة وزارة الدفاع! كان بإمكان «السيسى» وقتها أن يتحاشى إغضاب «رئيس الجمهورية» ويتقى استفزازه، ولكن هذا التفكير الانتهازى التقليدى لأى راغب فى البقاء بمنصبه لم يخطر وقتها على بال الرئيس بل فعل الواجب وما يرضى ضميره وما استقر من تقاليد راسخة للقوات المسلحة المصرية! ويمر عام لتتكرر الزيارة نفسها فى العام التالى ولكن كان لوقع الزيارة صدى مختلف، فهى الزيارة الأولى ل«السيسى» وقتها بعد رحيل الإخوان واشتعال العنف بسببهم، فكان للزيارة دلالتها، خصوصاً أن الحديث كان يدور فى وسائل الإعلام حول عنوان «ما أشبه الليلة بالبارحة»، والشبه الكبير بين ما يجرى من الإخوان فى تلك الأيام وما جرى منهم ومعهم عام 1954 وما تلاها حتى حادث المنشية وما فيها من حل للجماعة! وفى الخامس من مايو عام 2014 وقد صار «السيسى» مشيراً ومرشحاً لرئاسة الجمهورية يقول لإبراهيم عيسى ولميس الحديدى فى أول حوار تليفزيونى له بعد ترشحه: «عبدالناصر كان متعلق فى قلوب الناس وليس فقط صور على الجدران.. لقد كان شخصية حفرت لنفسها مكاناً فى وجدان الناس»، وبعد سؤاله عن من يشبهونه به قال «السيسى»: «ده كتير.. يعنى بصراحة ده مستوى.. وقدرة.. وإمكانيات.. كانت فى عصره خارج كل الحسابات.. ويا رب أكون كده»! فى 2016 يقول الرئيس «السيسى» فى الاحتفال بثورة يوليو: «إن ثورة يوليو مثلت نقطة تحول رئيسية فى تاريخ مصر المعاصر تعبر عن الاستقلال والحرية ونموذج للسعى لحياة أفضل، ضمن مسيرة حمل لواءها رجال أوفياء سنظل أوفياء لهم»، ولا تمر أسابيع حتى كان الرئيس «السيسى» يحقق حلماً لمحبى «عبدالناصر» فى كل مكان من المحيط إلى الخليج تجمد لمدة 46 عاماً، إذ يفتتح متحف «عبدالناصر» بعد ترميم منزله بمنشية البكرى، الذى عاد للدولة بعد رحيل السيدة الجليلة تحية كاظم، زوجة «عبدالناصر»، إلا أن فكرة المتحف ولدت وتقررت فى سبتمبر عام 1970 عقب وفاة الزعيم، ولم تعرف طريقها للتنفيذ إلا على يد الرئيس «السيسى» الذى كلف الأجهزة المختصة ووزارة الثقافة بسرعة إنجاز المشروع، وتم ترميم البيت الذى ظل مهملاً ربع قرن تقريباً حتى افتتحه وزار أركانه وشاهد فيلماً تسجيلياً عنه وعن «عبدالناصر» ثم كتب كلمته التاريخية فى سجل التشريفات وغادر المكان بعد وقت طويل قضاه به! سيقول البعض إن كل ذلك بروتوكول متعارف عليه وجزء من تصحيح لأخطاء تاريخية جرت فى السنوات الأربعين السابقة، ولكن ورغم عدم صحة ذلك ومنها ما ذكرناه عن إحياء «السيسى» لذكرى «عبدالناصر» فى عز حكم الإخوان وفى ظل حملة عاتية ضده لم تتوقف أصلاً منذ رحيله، لكنها كانت المرة الأولى التى تأتى من السلطة بل ومن قمتها أيضاً، لكننا نتوقف عند عدد آخر من الأدلة على عدم صحة ما استنتجه البعض من تعمد الرئيس «السيسى» انتقاد «عبدالناصر».. فمثلاً.. «السيسى» هو من أطلق اسم «عبدالناصر» على أول حاملة طائرات فى تاريخ البلاد، وكان يمكنه أن يبتعد عن الأمر غير الملزم به ويقوم بتسميتها بالحاملة «30 يونيو» مثلاً، لكنه لم يفعل وآثر أن يضرب مثلاً مع التعاقد على الحاملتين، وفى عهد «السيسى» عاد تمثال جمال عبدالناصر الشهير فى مدخل مبنى الإذاعة والتليفزيون الشهير بكورنيش النيل بماسبيرو بعد أن تم رفعه منذ عشرات السنين بعد أن بقى عدة سنوات بعد رحيل «عبدالناصر»! وهنا يمكن للبعض أن يستكمل الزعم بأن «السيسى» يفعل ذلك لما يتمتع به من خلق حسن وسلوك مهذب، ورغم أن ذلك صحيح فإن الأدلة الأخرى كثيرة.. منها ما كشف عنه المهندس عبدالحكيم عبدالناصر فى أزمة هجوم وزير الصحة على «عبدالناصر»، إذ دافع عن والده ورفض الإيقاع بين الغلابة والرئيس «السيسى» وقال إن الرئيس قال له حرفياً: «أنا جاى أواصل ما قطع لمدة 40 سنة لو كنا ماشيين بنفس معدلات تنمية الستينات كان زمانا نمتلك صواريخ تصل للقمر اليوم»! وهنا قد يقول البعض إن الرئيس يجامل نجل «عبدالناصر»، ولكننا نرصد كيف أحيا «السيسى» ذكرى عيد النصر وزار بورسعيد كأول رئيس لمصر يزورها بعد «عبدالناصر» ويرد الاعتبار لحرب 56، ونتذكر ما قاله «السيسى» ذات يوم من أننا «كنا نسير بخطوات تنمية كويسة حتى نهاية الستينات، لكن مش عايز أتكلم عن اللى جرى بعد كده»، لكنه الرئيس الذى قال حرفياً فى ختام مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى فى مارس 2015: «وفى عام 1962 جت بعثة من كوريا الجنوبية علشان تشوف مصر نهضت إزاى بعد 10 سنين من ثورة 52»! موقف الرئيس المهذب من «عبدالناصر» وتقديره واضح جداً، والصيد فى الماء العكر غير مقبول، وكلمة «اندبحنا فى 67» لم تكن هجوماً بقدر أنها صرخة على مسيرة تنمية ضربت بقسوة لوقف مسيرة مصر.. لكن ما لم يقله الرئيس هو شىء آخر عن تجربة تنمية مماثلة تجرى ويريد البعض أيضاً أن يوقفها حتى بطريقة أخرى غير طريقة العدوان المباشر الذى كان فى الستينات، وإنما تبدلت الطريقة اليوم لتكون بأيدى بعض أبناء مصر.. وكان انفعال الرئيس الغاضب، لكن لم يكن التصريح بذلك ممكناً.. فلم يفهم البعض حتى الآن معنى تقوية جيشنا العظيم ولا كلام الرئيس عن أننا نقوم بمشاريع «لن يعلن عنها الآن»! قد يكون الحديث بالأرقام أفضل.. ولكن فى مقال مقبل إن شاء الله.