طريق زراعى وسيارة يذهب بها لأول مرة إلى مسقط رأسه.. «الباشمهندس جاى يا ولاد» فرحة لم تكتمل ونهاية لم تكن متوقعة، حادث لا يتذكر من تفاصيله إلا إفاقته من البنج داخل المستشفى، حوله أصوات يعرفها اختلطت بأخرى لا يعرفها لكنه ميز الجملة جيداً «الحمد لله ربنا نجاه مافيش غير حاجة بسيطة.. مش هيشوف تانى». ذهب البصر وحضر الخوف، نعم لن يرى صغاره من جديد ولن ينعم بابتسامة زوجته، لكنه قانع حامد، كتم خوفه وألمه وامتثل لقوله تعالى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيراً». 23 سنة كاملة -منذ الحادث حتى الآن- يردد الآية كلما اجتاحه ذلك الخوف، رددها كثيراً، كلما شعر أنه بمفرده أو رأى بقلبه خطراً يهدد صغاره، يخاف من نباح الكلاب -توحى له بالشر والشؤم- ويخاف من نظرات الناس التى يشعر بها ولا يراها.. عندما سمع الهتاف يملأ الميدان، شعر -محمد البحيرى- أن صغاره صاروا شباباً، رأى ببصيرته أحلامهم وآلامهم، وشعر بالأزمة التى يعانيها كل منهم.. أزمة وطن. الخوف من المجهول دائماً ما لازمه، زاد عليه خوف من الحاضر، قبل أيام من الثورة ودع صغيره -هكذا يحب أن يناديه- قبل أن يتوجه الصغير إلى وحدة الجيش لتأدية الخدمة العسكرية، خوف الأم لم تبدده كلمات الأب الهادئة: «يا بنى الجيش مش مصيبة.. ده واجب» يضحك الأخوان بسام ووسام، ويغادران دون أن يغادر معهما خوف الأب.. أيام وتندلع الثورة، تشتت تركيز الأب بين خوفين، خوف على الأبناء وخوف على الحفيد الوحيد «ياسين»، يهزم خوفه على الحفيد كل المشاعر الأخرى، يبرر: «اللى زيى ما شفش بكرة، لكنه حاسس بيه، واحساسى بيقول: اللى جاى أصعب وأوحش»، يمتلك البحيرى مبررات عدة لخوفه الذى يلاحقه بدعاء مكتوم «ربنا ما يحكم»، يرى ببصيرته أن «مصر على شفا حرب أهلية، وأن الجيل الحالى من الشباب ضاع بين الثورة والفلول ومعدش حد فيهم عارف يعيش حياته، السياسة دمرت أحلام هذا الجيل وخايف على الجيل اللى بعده». يبكى بكاء الرجال.. تحمر عيناه دون دموع، ويتحشرج صوته مُصراً على إكمال حديثه دون توقف «لو واحد من عيالى راح ساعتها أبقى مت خالص، دول مش بس روحى لأ عينى اللى بشوف بيها ومخى اللى بفكر فيه..أقول لولادهم إيه.. جدكم العاجز معرفش يحافظ على ولاده.. طب هاحافظ على ولادهم إزاى؟»، يخشى الجد من ذلك اليوم الذى يرفع فيه المصرى سلاحه فى وجه المصرى بسبب نزاع سياسى. «يعنى إيه براجماتية وإيه الفرق بين الليبرالية والعلمانية»، أسئلة كثيرة كان يسألها دوماً ليعرف إجابتها.. لذا لم يغادر التليفزيون، يجلس إلى جواره طوال ساعات اليوم، يبدأ ب«الجزيرة» وينتهى ب«الفراعين»، يلم الشامى على المغربى من أجل معلومة أو تحليل يطمئن قلبه الذى زادت حدة دقاته خوفاً من المجهول، الانتخابات الرئاسية هى محطة النهاية بالنسبة له، يراها الحدث الذى سيفرق المصريين «ياريتنا ما عملنا انتخابات».. يتحسر الرجل على الخطوة الديمقراطية الوحيدة فى حياتنا التى قد تقضى على ما دونها من أحلام، كحلمه فى أن يجمع ابنيه وأحفاده حوله فى مكان آمن يسترد فيه الشعور بالأمن الذى فقده فى 25 يناير، يستعيض عن الحلم بتطبيق جزء منه، لا يغادر حفيده الصغير -نجل من يؤدى الخدمة العسكرية الآن- حجره، يمسك به كمن يمسك بالأمل فى غد أفضل «مش هسيبه.. هيفضل على حجرى عشان لو اقتحموا البيت أقدر أحميه». لا يدرى من هؤلاء الذين سيقتحمون بيته، لكنه يشعر بهم، يخاف أيضاً من قرار الابن بالسفر، يبحث الابن عن وظيفة مستقرة وحال البلد الواقف يحول دون ذلك، ويرفض الجد السفر، يتمسك الابن بحياة أفضل بلا خوف فى بلد لن تهزه الثورات، ويرى الجد أن بقاءه وحده على الأقل ضرورة تفرضها عليه «اللى فاضل فى العمر مش كتير..خايف الناس كلها ماتشوفش والبلد تروح وحفيدى اللى يدفع التمن».