كتبت منذ شهور قليلة عن علامات خريف سلطة الإسلام السياسى، التى اعتبرتها رمزيا بشائر أولى لقرب زوال حكمها، ووقتها خالفنى الرأى أشياع هذه السلطة. غير أن الشتاء يعقب الخريف، ويرمز عادة لقرب الانقضاء. وهذا هو شتاء سلطة اليمين المتأسلم يحل بقوة، ولكننا مقبلون على صيف ساخن، مؤذن بقرب انقضائها. ويرصد هذا المقال بعض علامات اقتراب نهاية هذه السلطة أو على الأقل تآكل التأييد الشعبى لها بسرعة مذهلة. بعد عشرة شهور من إمساكهم بالسلطة، تكاد لا تخلو محادثة، ولو عابرة، بين بعض من الشعب من الشعور بالندم والخديعة للتصويت لتيار اليمين المتأسلم، خاصة ممن صوتوا له. وينصب هذا الغضب على شخص محمد مرسى، فالرئيس الحاكم، وإن لم يكن متخذ القرار الفعلى أو الوحيد، فهو رسميا رمز تلك السلطة. ولقد تتالت العلامات على تدهور شعبيته أو تأييد الناس لحكمه أو بالأحرى حكم جماعته. مصداقا لاحتدام هذا الغضب الشعبى، أظهر استطلاع للرأى، أجراه المركز المصرى لبحوث الرأى العام، انخفاضا ملحوظا فى نسبة الذين ينوون انتخاب الرئيس مرة أخرى «إذا ما أجريت الانتخابات الرئاسية غداً»، حيث تراجعت هذه النسبة إلى 30% بعد أن كانت 37% فى نهاية الشهر التاسع و58% فى نهاية المائة يوم الأولى لحكمه، أى تراجعت باطراد إلى النصف تقريبا، بخسارة قرابة 30 نقطة كاملة خلال ستة شهور. وتنخفض نسبة الذين ينوون انتخاب الرئيس مرة أخرى إلى 23% فى الحضر، مقابل 35% فى الريف، وتظهر أيضاً اختلافات واضحة بين مناطق الجمهورية المختلفة، حيث تبلغ نسبة الذين ينوون انتخاب الرئيس مرة أخرى 19% فى المحافظات الحضرية، مقابل 26% فى الوجه البحرى و41% فى الوجه القبلى، وتقل بين الأعلى تعليما. أى إن تأييد الرئيس وجماعته، كما يعرف الجميع الآن، يرتفع فى فئات الشعب الأقل تعليما، ومن ثم الأشد عرضة للإغواء والترهيب السياسيين بالدين. كما نجح فريق من الشباب باسم حركة تمرد فى جمع أكثر من مليونى توقيع لسحب الثقة من الرئيس الحاكم فى عشرة أيام، بمعدل مليون كل خمسة أيام، وذُكر أن ارتفع عدد الموقعين إلى ثلاثة ملايين بعدها بأيام قليلة. وإن استمر هذا المعدل فسيتخطى عدد، التوقيعات الساحبة للثقة، عدد من صوتوا للرئيس فى انتخابات الرئاسة، قبل اكتمال عام على رئاسته. وإن كان الرئيس الحاكم يعير رأى الشعب فيه أى التفات، كما لا ينفك يعظنا، فإن تعدى عدد الموقعين على سحب الثقة منه عدد الأصوات التى نالها بالحق، وليست كل الأصوات التى عدتها له جماعته أو لجنة الانتخابات، فإن احترامه للشعب ولنفسه يوجب عليه أن يتنحى ويدعو لانتخابات رئاسية مبكرة. ولا يقلل من أهمية هذا الشكل، من الاحتجاج الشعبى السلمى والصحيح ديمقراطيا، ما يدعيه أشياع اليمين المتأسلم الجهلة من أن توقيعات حركة تمرد ليس لها حجية قانونية أو سياسية. فعند ثقاة القانونيين أن الفكر الدستورى يؤكد أن السلطات الدستورية مستمدة من الشعب، الذى يملك سلطة أعلى من السلطة التأسيسية، التى تعلو بدورها السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وقال واحد منهم عن توقيعات تمرد تحديدا: «لو نجحت الحملة فى جمع 15 مليون توقيع فيجب إعلان خلو مقعد رئيس الجمهورية، والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، ولو استمر (مرسى) بعدها فسيكون مغتصباً للسلطة، وتصبح قراراته معدومة». كما تهرأت القاعدة السياسية للتحالف الحاكم. فقد تمزق تحالف الحكم المكون من فصائل الإسلام السياسى. حيث أدى نزوع الإخوان المسلمين، باعتبارهم الفصيل القائد للتحالف الحاكم، إلى الاستئثار بالسلطة، إلى نفور حليفه السياسى السابق من السلفيين واشتداد التوتر بين الفصيلين، حتى خرج الخلاف بينهما والنقد الشديد من الفصيل المستاء إلى العلن. ووقت الكتابة كان وفد منهم يتصارع مع رجل الإخوان القوى نائب المرشد فى عاصمة الولاياتالمتحدة، على رضا الإدارة الأمريكية نصيرتهم فى اقتناص السلطة فى مصر، ولو بالإساءة إلى الفصيل الآخر، ممن يزعمون الرغبة فى الحكم بشرع الله. لاحظ أن التنافس بين الفريقين اللذين يدعيان أن غرضهما من السلطة هو إنفاذ شرع الله يجرى داخل أروقة الإدارة الأمريكية وليس على ساحة الشعب المصرى. وليس غريبا أنه لم يتعرض رئيس مصرى إلى النقد المرير والسخرية بل والاستهزاء بقدر محمد مرسى. وظنى أن الرئيس الحاكم نفسه يشعر بذلك، كما تجلى فى علاقته المعقدة بالزعيم التاريخى جمال عبدالناصر، الذى مهما قيل فى نقد عيوبه، فلا جدال فى أنه قد تربع على قلوب الناس، ليس فقط فى مصر ولكن فى عموم الوطن العربى. وإن كان لدى الرئيس الحاكم من شك فليجرب محمد مرسى أن يعلن نيته الاعتزال ويرصد رد الفعل الشعبى على القرار، مقارنا برد الشعب على قرار ناصر الشجاع بالتنحى بعد هزيمة 1967. والعلاقة بين الرجلين علاقة مركب نقص واضحة، ومركب النقص كمرض عصابى يتجلى فى التطاول أو التزلف من قبل من يشعر بالنقص على من يشعر بالنقص تجاهه. لقد بدأ الرئيس الحاكم عهده فى خطاب ميدان التحرير الشهير، فى سكرة نشوته بالوصول إلى الحكم، معرّضا بالرئيس عبدالناصر وعصره، وملمّحا بالتطاول على العملاق. ولكن بعد تسعة شهور بمناسبة عيد العمال، ومع تصاعد الرفض الشعبى لحكمه، لجأ إلى التمسح بالرجل وعهده ليحاول أن يكسب نقاطا من القاعدة الشعبية التى ما زالت ترفع صور جمال عبدالناصر، فى فعاليات الاحتجاج الشعبى على ما جره حكم سلطة اليمين المتأسلم على مكتسبات الشعب، التى كان لعبدالناصر فضل كبير فى ترسيخها. ولا مناص هنا من الإشارة إلى أن فضل عهد عبدالناصر قد عم أسرة محمد مرسى وعاد عليه شخصيا بالخير العميم. فلولا استفادة والده من قانون الإصلاح الزراعى، الذى عارضته جماعة الإخوان بضراوة، لربما ظل والد الرئيس الحاكم أجيرا معدما، وانتهى محمد مرسى العياط مثله. لكن محمد مرسى استفاد من سياسات الناصرية فتعلم مجانا حتى الجامعة ثم انتفع ببعثة حكومية إلى الخارج ليحصل على الدكتوراه. ولنتأمل ماذا فعلت عشرة شهور من حكم سلطة الإسلام السياسى بأحوال الناس وبالدولة المصرية، وفيها نجد مبررات تآكل التأييد الشعبى لسلطة الإسلام السياسى. عادت سلطة اليمين المتأسلم إلى ملاحقة الشباب الثائر، والاعتقال بلا مبرر، والتعذيب الهمجى فى السجون والمعتقلات، بما فى ذلك التعدى الجنسى فى ظل حكم الإسلام المدعى، وفى أحيان حتى الموت، وإلى توظيف سيف القانون الطائش للعصف بحقوق المعارضين للحكم، بسلطان النائب العام غير الشرعى، المتهم بالتدخل فى سير تحقيقات وقضايا جار نظرها أمام القضاء، وهذه لمن لا يعلم جنايات. ذلك النائب نفسه الذى تباطأ، عمدا على ما يبدو، حتى فوّت موعد النقض على حكم البراءة لمتهمى موقعة الجمل، على الرغم من إتاحة لجنة تقصى الحقائق لمبررات جدية للطعن قبل الموعد المحدد للسيد النائب وللرئيس سويا، بينما سيادته يثب بأقصى سرعة للأمر بحبس الشاب الثائر. والغرض الظاهر هنا هو محاولة وأد الإمكان الثورى التحررى الذى يعتمل فى صدور الشعب لا سيما الشباب. ولكن كما فشل سابقوهم، فلن يفلحوا فى هذا المسعى الخبيث. والشعب ما فتئ يجأر بالشكوى من لهيب الغلاء، ومن شح الحاجيات الأساسية للحياة العادية، ولا تعد سياسات سلطة الإسلام السياسى إلا بالمزيد من التعاسة. ولا غرابة أن اندلعت حركات الاحتجاج الشعبى متزايدة ومتصاعدة بينما اشتدت بربرية الأمن الباطش بحقوق المحتجين على تردى أوضاعهم المعيشية. لقد فشلت السلطة التنفيذية، فى ظل حكم الإسلام السياسى، فشلا ذريعا فى الوفاء بحاجات المواطنين، وزادت هامشية ورداءة بمرور الوقت. ولم يُجد الترقيع الوزارى الذى طال انتظاره والذى أعلن فى النهاية، وكان رئيس الوزارة المسكين آخر من يعلم بشأنه، فتيلا فى رفع آمال المواطنين فى تحسن الأحوال، بل زاد على الحكومة البائسة قبحا وعلى الحكم عتامة وعلى الناس تعاسة. ويبدو أن هدفه الوحيد كان زيادة استئثار جماعة الإخوان المخادعين وأشياعهم بمناصب السلطة التنفيذية. وقد أصبح سعى اليمين المتأسلم المحموم، لتقويض سيادة القانون وتطويع القضاء لتغول السلطتين التنفيذية والتشريعية التى اختطفت لمجلس الشورى، والتى كان يفترض أن تكون مؤقتة وتستعمل فى أضيق الحدود، حسب وعد الرئيس الحاكم، فضيحة دولية بجميع المقاييس. فليستعد الجميع لمذبحة قضاء بشعة. فالرئيس محمد مرسى قال «لن أسمح بالتدخل فى القضاء»، وحيث لم يعد الرجل إلا وأخلف، والرجل هو أول من قوض سيادة القانون واستقلال القضاء بإعلانه الدستورى المنعدم، بسبب اغتصابه للسلطة التأسيسية، فالمذبحة قادمة لا ريب. ولعله أكمل، فى سره: «إلا من قبل الإخوان والسلفيين»!