يروى الكتاب الفرنسى عن طريقة إدارة قناة الجزيرة لثورات الربيع العربى، وهى طريقة حرصت فى بدايتها على أن تمسك العصا من المنتصف، حتى تتأكد أولاً من مصير المتظاهرين الذين اندفعوا للشوارع، يقول: «لقد كان الربيع العربى فرصة حقيقية أمام قناة الجزيرة لكى تحتل مقدمة المشهد الإعلامى العربى من جديد. وكان غريباً أن القناة التى لا تفوتها شاردة ولا واردة فى الشارع العربى فى مختلف العواصم، قد فاتتها تغطية البدايات الأولى لثورة (الياسمين) فى تونس فى ديسمبر 2010». ويؤكد أحد الصحفيين العاملين بالقناة لمؤلفى الكتاب جورج مالبرونو وكرستيان تشيسنو: «لم يكن الأمر مفهوماً فى القناة فى تلك اللحظة. كانت رئاسة التحرير تترقب، وتتوقع أن الرئيس التونسى زين العابدين بن على سيقمع الثورة. لكن بعدها قرروا اللحاق بالقطار الذى انطلق بالفعل، وتضاعف عدد اللقاءات التى كانت الجزيرة تجريها مع زعماء حزب النهضة الإخوانى فى تونس». ترقبت الجزيرة الموقف فى تونس، لكنها كانت جاهزة ومستعدة تماماً لما حدث فى الثورة المصرية. يواصل الصحفى شهادته للكتاب: «فى مصر، تداركت الجزيرة الموقف، ووصلت تغطية الثورة إلى حدها الأقصى، إلى درجة أننا وصلنا إلى مرحلة خرج فيها أحد المسئولين عن القناة من اجتماع مع إدارتها ليقول لنا صراحة: هذا الأسبوع سيكون هو أسبوع الحسم؛ فإما أن يذهب مدير القناة (وضاح خنفر) أو يذهب مبارك»! والواقع، أن قناة الجزيرة كانت سلاحاً لا يمكن إنكار تأثيره فى تحريك ثورات الربيع العربى، قبل أن تقرر أن تحمل بنفسها هذا السلاح، يروى الكتاب: «وصلت الجزيرة إلى منعطف جديد مع الثورة الليبية والحرب ضد نظام القذافى، خاصة بعد أن لقى أحد المصورين بالقناة مصرعه فيها، صارت الجزيرة جزءاً من الصراع، واعتبرت الجزيرة نفسها وسيلة إعلامية فى حالة حرب حقيقية». والواقع أنه لا يوجد ما يكشف استخدام أمير قطر للجزيرة كسلاح فى تصفية وتحريك معاركه السياسية، بالقدر الذى تكشفه تلك الواقعة التى نقلها الكتاب على لسان وزير الخارجية السورى وليد المعلم، يقول: «يروى وليد المعلم، وزير الخارجية السورى، عن لقاء جمع بينه وبين أمير قطر فى الدوحة فى نوفمبر 2011: «قال لى الأمير: لو أنكم قبلتم المبادرة العربية سأغير من موقف الجزيرة، وسأقول للشيخ يوسف القرضاوى أن يقوم برعاية اتفاق المصالحة فى سوريا(!)، وسأضع عدة مليارات من الدولارات لإعادة إعمار بلادكم». إلا أن القاعدة التى لا تخيب أبداً: يمكنك أن تخدع الشعوب بعض الوقت، لكن لا يمكنك أبداً أن تخدعها كل الوقت. لقد انحسرت موجة الربيع العربى لتنكشف ملامح «الجزيرة» المشوهة، ودورها الملوث فى تحريك الشعوب وفق مصالحها، وظهر ذلك واضحاً فى ذلك الانخفاض المخيف الذى أصاب نسبة المشاهدة فى الجزيرة، وانصراف الجمهور العربى عنها، يواصل الكتاب: «كان من المثير للدهشة أن ثورات الربيع العربى قد شهدت ذروة مجد الجزيرة وبداية انهيارها معاً، خاصة أنها فقدت الكثير من مصداقيتها لدى الناس، بعد أن فقدت من قبله تمسكها والتزامها بالشعار الذى كانت تعلنه من قبل: الرأى والرأى الآخر. فالواقع أنه منذ ثورات الربيع العربى صارت الجزيرة تعلن صراحة اصطفافها خلف أجندة الحكومات الإسلامية الجديدة التى وصلت إلى الحكم فى دول الربيع العربى، خاصة أن تلك الحكومات قد خرجت من عباءة السياسة الخارجية القطرية». ولم تقتصر الرعاية القطرية لحركات المعارضة الإسلامية، وعلى رأسهم الإخوان، على دعمهم فى الوصول إلى الحكم، وإنما امتدت إلى حشد التأييد لهم فى الشارع مهما أخطأوا. يؤكد الكتاب أنه: «فى قلب قناة الجزيرة نفسها كانت التعليمات الموجهة لطاقمها واضحة ومحددة: من غير المسموح انتقاد السلطة الجديدة التابعة للإخوان فى دول الربيع العربى. وكانت الرسالة التى مررتها إدارة التحرير للعاملين والمشاهدين هى: لقد وصل الإخوان منذ فترة قصيرة إلى السلطة، دعونا نتركهم إذن يثبتون أنفسهم فى الحكم».. تلك الحالة من فقدان المصداقية لحساب المصالح السياسية، تركت أثراً غائراً فى نفوس آخر العاملين المحترمين فى الجزيرة، يتابع الكتاب: «بالنسبة لقدامى العاملين فى الجزيرة، كانت هناك حالة من المرارة لا يمكن إخفاؤها؛ يقول واحد منهم: لقد فقدنا الكثير من جمهورنا، نحو 30% منهم على الأقل بعد ثورات الربيع العربى. فقدنا مصداقيتنا لدى الناس، وعاد الناس فى كل بلد يتابعون وسائل إعلامهم المحلية ويثقون فيها أكثر من ثقتهم فينا». ويواصل: «تغيرت الأوضاع، لم تعد الجزيرة هى المرجع الذى يتجه إليه المشاهدون العرب. وذهبت غالبيتهم إلى متابعة وسائل إعلام منافسة مثل قناة العربية وسكاى نيوز، والخدمات العربية للقنوات العالمية الأخرى، مثل: البى بى سى العربية والحرة وفرانس 24 وروسيا اليوم، إضافة بالطبع إلى شبكات التواصل الإعلامى التى تشكل مصادر جديدة وقوية للمعلومات والأخبار». لكن، كانت الجزيرة على ما يبدو قد فقدت اهتمامها بالجمهور العربى، أو أن الشعوب العربية بالنسبة لها قد أدت الغرض، وحققت لها الشهرة المطلوبة فى العالم الغربى الذى تستهدفه اليوم، بنفس الضغط والإلحاح اللذين كانت تستهدف بهما العرب بالأمس. يقول الكتاب: «كانت طريقة الجزيرة للتعامل مع هذه المنافسة هى أن توسع من قاعدة جمهورها على مستوى العالم. وبدأت باللغة الأكثر انتشاراً الإنجليزية. أرادت الجزيرة أن تصل إلى جمهور أوسع، وتغير الصورة التى صارت مرتبطة بالجزيرة فى الخارج، حتى تكون قادرة على منافسة القنوات الإخبارية الكبرى، مثل سى إن إن وفوكس نيوز على أرضها. والواقع أن الجزيرة خلال توسعاتها كانت تعانى صعوبة فى دخول السوق الإعلامية الأمريكية، حتى وجدت المدخل المناسب من خلال شراء قنوات (كورونت) التى كان يملكها آل جور، نائب الرئيس الأمريكى الأسبق بل كلينتون. هذه الصفقة ستتيح لها الوصول إلى 40 مليون مشاهد أمريكى فى بيوتهم، بدلاً من 5 ملايين مشاهد فقط، هم نسبة مشاهدة الجزيرة الإنجليزية». ويكشف الكتاب «تخصصات» العائلة المالكة القطرية فى إدارة الجزيرة: «فى قلب العائلة المالكة نفسها، فإن الأمير حمد يتولى الإشراف على المجال الإخبارى، والأمير تميم ولى العهد يتولى الإشراف على القطاع الرياضى، أما الشيخة موزة فتشرف على قطاع الشباب والجزيرة للأطفال. لقد اختارت العائلة المالكة القطرية أن يتم تطوير وضع قناة الجزيرة بحيث يدرك الناس أنها ليست قناة رسمية وإنما شبه رسمية، بشكل يتيح لها أن تواكب تطورات واحتياجات سوق العمل العالمية». «ويقرر الأمير حمد بنفسه تعيينات أعضاء مجلس إدارة الجزيرة، خاصة أن هذا المجلس يكون فى المعتاد ساحة مواجهات بين أصحاب التأثيرات الكبرى فى قطر، خاصة الصراع بين نفوذ الشيخة موزة وحمد بن جاسم رئيس الوزراء. ربما لذلك وبعد إقالة وضاح خنفر إثر انكشاف اتصالاته بالمخابرات المركزية الأمريكية فى برقيات ويكيليكس عام 2011، قرر الأمير حمد تعيين الشيخ أحمد آل ثانى، ومن بعده تعيين الشيخ حمد بن تامر آل ثانى، كحلقة وصل رئيسية بين الكل. والشيخ أحمد هو أحد المسئولين القدامى فى شركة الغاز القطرية، ومن المعروف عنه أنه إدارى جيد، والأهم أنه قريب من الإخوان. وهو الذى سيقع عليه عبء إدارة تلك الإمبراطورية الإعلامية التى لا تكف عن التبدل والتغير». أخبار متعلقة: «الساحرة المستديرة» و«الجزيرة» الشريرة! «الجزيرة الرياضية» تصنع نفوذ الأمير تميم بسحر كرة القدم لمتابعة الحلقات السابقة: صراع الرجل الثانى وولى العهد فى قطر مفاجأة: أمير قطر قرر ترك السلطة فى 2016 ومعه حمد بن جاسم الأمير تميم.. القوة القادمة فى قطر «موزة»: لا أريد أن يكبر أطفالى ليصبحوا مثل أبناء مبارك قطر.. أسرار الخزينة التى لم يفتحها أحد