كثيراً ما يقع الثوار فى مشكلات من صنع أيديهم ويستسلمون لأوهام من نسج عقولهم. فمع الحماس الزائد والانتشاء الثورى يصر بعضهم على تصرُّفات تتراءى لهم سليمة، بينما هى تضلّلهم وتضعف مواقفهم. ومن الأوهام التى وقعت فيها قوى وحركات وشخصيات شاركت فى إشعال ثورة يناير وهم الاعتماد المستمر على الميدان والاعتقاد فى إمكانية العودة إليه فى أى وقت ظناً منهم أن المشهد الذى انفجر فى 25 يناير 2011، قابل للتكرار فى كل مرة يدعون فيها إلى النزول إلى الميدان. ومع أن الثوار عادوا إلى الميدان بعد الثورة عدة مرات، إلا أن أياً منها لم تكن بنفس قوة الانفجار الأول. لم يتمكنوا من إعادة المشهد الثورى المتماسك الذى ميّز الثمانية عشر يوماً التى أسقطت «مبارك». فخلال تلك الأيام نزل الجميع إلى الميدان: المسلم والمسيحى، الأصولى والعلمانى، الرجل والمرأة، الليبرالى والإخوانى. هؤلاء معاً جعلوا الميدان رمزاً للتغيير إلى درجة جعلت البعض يتصور -واهماً- أن «الميدان هو الحل» وأن النزول إليه فى كل مرة سيكون كما نزلوا إليه فى 25 يناير. والصورة ليست بهذه البساطة. فالعودة إلى الميدان ممكنة، لكن نتائجها ليست مضمونة ولن تكون مُرضية، لأن الظروف والأحوال تغيّرت. فالشعوب لا تقوم بثورة كل سنتين أو ثلاث. وإعادة تجميع الناس الآن على هدف واحد أو خطة عمل مشتركة باتت أمراً بالغ الصعوبة. فالمجتمع انقسم وجرى استقطابه بين تيارين كبيرين إسلامى ومدنى، كل منهما داخله تفريعات عديدة لها رؤيتها وحساباتها. ثم إن تحريض الجماهير على النزول لا يمكن أن يأتى بقرار. فقد تنزل مجموعات بعينها إلى الميدان تلبية لأمر قياداتها. أما الجماهير الهائلة فعودتها إلى الميدان من جديد ليست بالأمر المتوقع تكراره بين فترة قصيرة وأخرى. فالناس فى مصر الآن أغلبهم يشاهد ولا يشارك، لأن الحكام الجدد والمعارضون الجدد على السواء أحبطوا الجماهير. وكلاهما، الحكم والمعارضة، يراهن على أتباعه الناشطين. وهؤلاء لا ينزلون إلى الميدان من أجل مصر، وإنما من أجل أنفسهم. من أجل «الإخوان» أو «التيار الشعبى» أو «6 أبريل». ينزلون ليفرضوا رؤيتهم على باقى المصريين. أما المصريون الممثلون للكتلة الأكبر التى غامرت فى 25 يناير، فقد ضعف الزخم الثورى فى صفوف أغلبيتهم. ولهذا فإن الاعتماد هكذا بالمطلق على الميدان بات أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة، لأن الميدان انقسم إلى ميادين بعد أن تفرق من شاركوا معاً فى الثورة إلى خصوم ومتنافسين. الحل ليس كله فى العودة إلى الميدان. فالميدان الآن بعد أن تراجع الزخم الثورى وضاعت القضية المشتركة لن يزيد على أن يكون محطة للتأثير، ولم يعد مسرحاً للتغيير. العمل التنظيمى الآن هو الأهم، وهو المسرح الحقيقى. ليس بالطبع بتنظيم تظاهرات جديدة أو بتمنى نزول الحشود إلى الميدان، وإنما بفكر وعمل مؤسسى متماسك يمكّن المعارضة من صوت الناخب بدلاً من تعويلها على استدراج عاطفته وتحميسه للنزول إلى الميدان. العودة إلى الميدان لم تعد أكثر من وسيلة مساعدة وليست هى الوسيلة الأصلية للعمل السياسى. لا بد من أطر تنظيمية قوية وائتلافات عريضة تخوض العمل السياسى وتقتحم المؤسسات، لأن التعويل على عودة روح الميدان كما كان أيام الثورة ليس إلا غرقاً فى أمل خادع. فأى نزول كبير الآن إلى الميدان لن يقف المصريون فيه مع بعضهم، وإنما فى وجه بعضهم وسيكون ذلك لو حدث خطيراً للغاية. صحيح أن اللجوء إلى الميدان لم يكن وهماً عندما اتحد المصريون ضد «مبارك». لكن التعويل المستمر عليه الآن بعد أن تفرّقت بهم السبل وذهبوا مذاهب شتى أشبه بالاعتماد على أسطورة والاستسلام لوهم. والأوهام قد تُصدّق أحياناً لكنها لا تُصدّق فى كل الأحيان.