أثناء حرب الخليج الثانية صك الأمريكيون مصطلح الصدمة والرعب، يفسرون به أسلوبهم فى مهاجمة الجيش العراقى، وربما نعدل المصطلح قليلاً ونستبدل الإنهاك بالرعب، بحيث يصبح لدينا سياسة تمزج ما بين الصدمة فى اتخاذ القرار والإنهاك بالنسبة للشعب بكل فئاته وتياراته، والحصيلة مزيد من الارتباك المقصود ومزيد من فقدان التوازن الداخلى ومزيد من عدم الرضاء، وفى ظنى أن هذا هو حالنا الآن. البادى للنظر أن حكومة المهندس إسماعيل شريف تنتهج هذا الأسلوب بدون رتوش أو تجميل، إذ لا تضع الرأى العام فى اعتبارها، مستندة إلى تصورين متداخلين؛ الأول أنها حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسى صاحب الشعبية النسبية، الذى يقبل منه الشعب أى إجراء مهما كان قاسياً أو صعباً، والثانى أن لديها أزمة مالية واقتصادية مستعصية وعلى الشعب أن يتحمل وأن يضحى. التصوران يخلطان الصحيح بالخاطئ، أو كما يُقال السم بالعسل، ومن حيث المبدأ لا توجد شعبية دائمة فهى متأرجحة صعوداً وهبوطاً، هكذا هو حال الرأى العام ليس فى مصر وحدها ولكن فى كل مكان فى العالم، والشىء المؤكد أن كل مصرى يدرك أن الوضع الاقتصادى فى أصعب حالاته، وأن هناك حصاراً حقيقياً على بلده، وأن التحديات والتهديدات تحيط به من كل مكان، وهو إدراك يمكن أن يساعد الحكومة على أداء دورها بكفاءة والخروج من هذا المأزق، شرط أن تحترم الناس وتتحاور معهم، وأن توفر لهم المعطيات، وأن تشاركهم فى تحديد السياسات واتخاذ القرارات، أما أن يحدث عكس ذلك فهنا الطامة الكبرى. فى الأسابيع القليلة الماضية فوجئنا كمصريين بعدد من القرارات الصادمة بكل معنى الكلمة، من حيث التوقيت ومن حيث طبيعة القرار ومن حيث عنصر المفاجأة، التى حصيلتها المزيد من إنهاك المصريين ودفعهم إلى دائرة اللا يقين بشأن حاضرهم ومستقبلهم، اتُخذت القرارات بعقل بارد ودون حسابات دقيقة غالباً فيما يتعلق بعائدها الاجتماعى أو الاقتصادى أو السياسى أو المعنوى، وبالتالى تفاقمت الفجوة بين الناس والحكومة. فوجئنا من قبل بقرار تعويم الجنيه، وقيل لنا إنه سيؤدى إلى ضبط الأداء الاقتصادى وإخراج الدولار الأمريكى من دائرة المضاربة والتعامل معه كسلعة، وبغض النظر عن أية جوانب أو مبررات لاتخاذ هذا القرار وبالصورة التى تم بها بالفعل، فإن حصيلة شهرين بالنسبة للمواطن هى حصيلة سلبية بكل المقاييس، الغلاء صار فاحشاً والدخل الحقيقى لأى مصرى انخفض بأكثر من 60 فى المائة، أما المدخرت إن وجدت فقد انخفضت قيمتها الشرائية إلى أكثر من النصف، وما زال الدولار هو سيد الموقف فى تحديد الأسعار، فى حين أن الأجور هى بالجنيه عديم القيمة، والمشكلة لم تعد خاصة بالأفراد بل بالحكومة نفسها، التى تتحدث عن صدمة ارتفاع تكاليف الخدمات العامة بسبب ارتفاع الدولار، وكأنها لم تكن تعرف أن نتائج وتداعيات التعويم ليست فقط على الأفراد بل عليها وعلى كل المؤسسات وكل الكيانات، فهل كانت الحكومة غائبة عن الوعى وهى تتخذ مثل هذا القرار؟ نسمع من بعيد عن مشكلات وخلافات بين البنك المركزى والحكومة، لأنها تقاعست عن اتخاذ عدة قرارات اتفق عليها من قبل للحد من تأثيرات التعويم المفاجئ للجنيه، ونسمع أيضاً أن الحكومة تعيش حالة ارتباك داخلى، وهذه ليست جديدة فى حد ذاتها، ولكنها فى التوقيت الراهن مُحزنة وخطيرة. من القرارات المفاجئة التى تبدو عبثية، نشير إلى مثاليْن لم يمر بين صدور أولهما وثانيهما إلا يومان فقط؛ الأول هو موافقة الحكومة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، وهى الاتفاقية المثيرة للجدل نظراً لأنها -كما هو معروف- تتضمن التنازل عن أو تسليم جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، وإرسالها للبرلمان لإقرارها فى وقت يدور فيه نزاع قضائى حول الاتفاقية ليس فقط بين الحكومة والمدعين بالحق فى القضاء الإدارى، بل بين الأخير والقضاء المستعجل، وبحيث أصبح لدينا شبكة تفاعلات قانونية ليست فى صالح أى أحد، وبحيث يجىء استباق الحكومة لحكم القضاء الإدارى الأعلى، وكأنه يلقى بكرة من اللهب إلى أيدى البرلمان، الأمر كله مفاجأة من العيار الثقيل بمنظور الإدارة الممزوجة بحس سياسى نفترض أنه يجب ألا يغيب عن أى مسئول، وإذا به يغيب عمداً وقصداً. أما القرار الصادم الثانى فهو التطبيق التجريبى للكروت الذكية للوقود فى عدد من المحافظات فى صورة مفاجئة، وكأن الهدف هو التغطية على تداعيات القرار السابق له، ودفع الناس إلى الاهتمام بأمور شخصية وذاتية بدلاً من التركيز فى مصير أمر يخص الوطن ككل، والمشكلة هنا أن المنظومة الذكية تتصف بالغباء الشديد، والأمر لا يتوقف عند وجود عدد هائل من أصحاب السيارات ليس لديهم هذا الكارت الذكى اسماً، بل لأن الشركة التى تولت الموضوع كانت قد توقفت قبل عام عن متابعة إصدار تلك الكروت، ثم فجأة وجدنا أنها سوف تستخرج ما فُقد وما لم يستخرج بعد، فى ظل تهديد بأن الفترة الممنوحة لأصحاب السيارات وسائقى التوك توك والمعدات الزراعية هى فى حدود شهر واحد فقط، ومن يحاول الوصول إلى معلومة عبر رقمى الهاتف المُعلن عنهما سوف يصدم بسوء الخدمة ورداءة الصوت وعدم وضوح المعلومات، وشخصياً فإن تجربتى مع هذه المنظومة فى غاية السوء، فقد استخرجت الشركة الكارت الخاص بسيارتى قبل عام ونصف ولكنها أرسلته إلى محافظة أخرى تبعد عن محل إقامتى أكثر من 150 كم، وبالفعل ذهبت إلى تلك المحافظة وواجهت الأمرين بين إدارة البريد المحددة وشرطة هذه المدينة، وانتهى الأمر بأن الشركة لا تعلم شيئاً عن كروتها الغبية، ثم انتهى العقد وتوقف كل شىء، ثم فجأة تعود الشركة ذاتها لتمارس إنهاك المصريين نيابة عن الحكومة وبالتنسيق معها، لعلهم ينسون ما هو أكثر أهمية للوطن ككل. وحتى اللحظة لا أفهم لماذا الإصرار على تطبيق منظومة غير مكتملة، وحتى العاملون فى محطات الوقود ليسوا مدربين عليها، وكثيرون لم تصلهم التعليمات وليس لديهم الماكينة الخاصة بها، وما دامت النية حسب تأكيدات وزارة البترول عدم زيادة الأسعار لاحقاً أو منع المواطنين من شراء ما يريدون، فلماذا العجلة ولماذا الصدمة ولماذا كل هذا العبث، ولماذا الإصرار على إنهاك المصريين؟ وكأن المطلوب هو القضاء على ما تبقى لهم من عقل.