فى مصر، حالة مؤسفة من التضليل الإعلامى، مصادر تؤكد وأخرى تنفى، أخبار صادقة تختلط بأخرى ملفقة فتغيب الحقيقة، وليت التضليل يقف عند التفاصيل الصغيرة وإنما يتسع ليشمل كل شىء بما فى ذلك العمليات الكبرى التى قد يتحدد بمقتضاها مستقبل مصر السياسى، البعض مثلاً ينفى نفياً قاطعاً أن هناك أخونة للدولة، والبعض الآخر يجزم جزماً نهائياً بأن الأخونة لم يعد أمامها غير السلطة القضائية بعد أن امتلك الإخوان الرئاسة والبرلمان واخترقوا كافة أجهزة الإدارة. ويبدو أن الحقيقة فى بلدنا مثل الفضيلة: وسط بين رذيلتين، قد نجدها بين ادعاء الإخوان بالبراءة والطهر ومبالغة منافسيهم وخصومهم فى الاتهام والتجريم. وشأنى شأن غيرى، لا أستطيع أمام تصريحات معلنة من قيادات إخوانية وإحصاءات موثقة عن تغلغلهم فى أجهزة الدولة وحقائق ماثلة عن وجودهم فى مفاصل السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا أستطيع أن أقفل عينى أو أكذّب عدم وجود أخونة، وأنا أيضاً مثل غيرى لا أستطيع أن أصدق أن الأخونة ستمضى إلى نهايتها كما يصور خصوم الإخوان. فمصر فيها تعقيدات مهولة ومؤسسات عتيدة تعرف كيف تدافع عن مصالحها المستقلة وقوى اجتماعية نشطة كلها لن يتيح للإخوان أن يطوعوا البلد كما يحبون أو كما يوحون للناس من خلال مصطلحهم المفضل: «التمكين». الإخوان يحاولون، ومنافسوهم يحاولون ضدهم، الإخوان لن يتوقفوا عن الأخونة، لأنها بالنسبة لهم مسألة عقيدة، يعتبرون أنفسهم حملة مشروع شامل للتغيير، ولهذا سيواصلون العمل لانتزاع السلطة القضائية بعد أن غنموا السلطتين التنفيذية والتشريعية، سيحاولون أخونة القضاء، سبق لهم أن عطلوا عمل المحكمة الدستورية عندما حاصرها أنصارهم، واحتجوا على أحكام القضاء الإدارى التى لا تعجبهم، وعينوا نائباً عاماً خصوصياً حصنوا موقعه بالدستور، وتظاهروا مؤخراً أمام دار القضاء العالى للمطالبة بتطهير القضاء، ويعبثون حالياً بقانون السلطة القضائية لطرد آلاف القضاة حتى يحل قضاة غيرهم تفضلهم الجماعة. والغريب فى الإخوان أنهم لا يتعلمون من سنن التاريخ، فهم اليوم يحاولون أخونة القضاء بعد أن كان القضاء عليهم أمل رجال أمن وفكر وسياسة فى مصر والمنطقة، وهؤلاء حاولوا اقتلاع الإخوان لكنهم لم يكونوا أيضاً على دراية بسنن التاريخ، فلم يقضِ هؤلاء على الإخوان برغم شراسة محاولاتهم، فلماذا يظن عاقل أن الجماعة ستنجح أيضاً فى أخونة القضاء؟ لقد ذكرنى المستشار الجليل طارق البشرى، فى لقاء عابر قبل نحو شهر بجمال عبدالناصر، الذى خرج للرأى العام فى الستينات، داعياً إلى «هز الدولة»، كان ناصر حالماً، لم يهزها أو يغير قواعدها كما تمنى ولم يقض لا هو ولا من خلفه على الإخوان لا بالأمن ولا بالسياسة ولا بالقضاء، رحل ورحل رئيسان بعده واضطربت الدولة دون أن تهتز قواعدها العتيدة، وما محاولة أخونة القضاء اليوم إلا حلم بهز الدولة من جديد لكن فى اتجاه آخر مخالف لاتجاه الستينات. مشكلة الإخوان أنهم يفعلون عكس ما يقولون، يؤخونون ويدّعون أنهم يتشاركون، يزعمون أنهم يحترمون القضاء، بينما يحاصرون مؤسساته ويرتبون مجزرة لرجاله، هم جماعة أيديولوجية، والأيديولوجية تعمى صاحبها أكثر مما تهديه، مشكلتهم ومشكلة كثير من خصومهم أنهم يعتبرون السياسة فى مصر مباراة صفرية: إما أن تحصل على كل شىء أو يكون مكانك القبر أو السجن، وهذه عقلية لا يمكن أن تدافع عن ثورة قامت من أجل الحرية، أخونة القضاء ماضية، لأن الإخوان لا يسمعون غير صوت أنفسهم، لكن مقاومتها ماضية بالمثل، وقد يكون توازن القوى مفقوداً الآن، لكنه سيسترد على المدى البعيد لتظل مصر هى مصر، تلفظ ولو بعد حين كل من بغى وتكبر، ومثلما لفظت قبل سنتين من كان يحاول القضاء على الإخوان، فإنها ستلفظ، ولو بعد حين، من يحاول أخونة القضاء.