هناك مخطوطة عربية مجهولة المؤلف بالمكتبة الوطنية بباريس ترجح عودتها إلى القرن الثالث عشر الميلادى تحمل عنوان «رقائق الحلل فى دقائق الحيل»، لم يعتمد كاتبها فى نصحه للحكام على الأسلوب المباشر الذى اتبعه «ميكافيللى»، إنما سلك درب الحكاية والقصة كوسيلة لتعليم الحكام فنون الإدارة والحكم، وقسم حكاياته إلى حيل الملائكة والأنبياء وأدعياء النبوة والملوك والسلاطين والوزراء والقضاة والفقهاء والعبّاد والزهاد، ليحذر من خلالها الحكام من مغبة الظلم والاستبداد، ويبصرهم بالفوائد العظيمة التى تترتب على حكمهم بالعدل. ورغم أن «الآداب السلطانية» التى تم تأليفها على نطاق واسع فى التاريخ الإسلامى رمت فى الأساس إلى تقديم النصيحة للملوك والسلاطين ومساعدتهم على إطالة عمر حكمهم بالسيطرة على الرعية وقهر المنافسين على السلطة وهزيمة العدو الخارجى، فإنها انطوت فى جانب منها، حتى ولو كان يسيراً، على نوع من المواجهة الحذرة، حيث لم يكُن الناصح قادراً على أن يبين للسلطان مَواطن الظلم فى مسيرته السياسية، فكان يستبدل هذا بحديث مفرط عن «العدل» وإغاثة المظلوم والاتصاف بالكرم. ومع أن أغلب الحكام لم يتعاملوا مع هذا النوع من النصائح بما يليق به من أهمية، ولم يحملوه على الجد، مدفوعين ب«طبائع العمران وليس بما تحطه التآليف» كما يقول «ابن خلدون»، فإن كثيراً من مدبجى الآداب السلطانية كانوا يشعرون أنهم يؤدون ما عليهم من دور بمواجهة الحاكم بحذر وحساب، تقتضيه طبيعة العلاقة بين الطرفين، التى تقوم على تبعية الناصح للحكام واستقواء الأخير على من يقدم له النصح. وبعض هذه النصائح أخذ صيغة مباشرة مثل ما جاء فى كتاب «نصيحة الملوك» ل«الماوردى» الذى ينطلق من أن «الملوك أولى الناس بأن تهدى إليهم النصائح، وأحقهم بأن يخولوا بالمواعظ، إذ كان فى صلاحهم صلاح الرعية، وفى فسادهم فساد البرية»، لينصح أهل الحكم بأن يترفعوا عن مشاكلة أهل الغباوة والجهالة، وسوء النشوء والعادة، وأن يجالسوا العلماء، ويأخذوا بآداب الدين، ويتعلموا أن المُلك لا ينال إلا بالخدمة الطويلة، والرياضة الصعبة الشديدة، والمخاطرة العظيمة والأشغال الكثيرة والآمال البعيدة، التى ربما أتت دونها المنية لأن المُلك محنة وابتلاء. ثم يحمل «الماوردى» على الحاشية التى تحيط بالسلطان أو بالحكام، ويرى أن أغلبهم لا يكلمون الحاكم إلا بما يوافق أهواءه، ولا يستقبلونه إلا بما يطابق آراءه، مخافة على منافعهم، وتحصيناً لدمائهم. وبعض النصائح أخذ صيغة غير مباشرة، مثل ما قدمه أبوحيان التوحيدى فى كتابه الشهير «الإمتاع والمؤانسة». ويحفل الأدب الشعبى العربى بأشكال ومظاهر عدة للمقاومة بالحيلة. فشخصية «جحا» مثلاً، التى توزعت على حضارات وجنسيات شتى، تبدو نوعاً صارخاً من التحايل الذى يقوم على المكر والدهاء والذكاء وسرعة البديهة وبلاغة الرد فى مواجهة سلطة غاشمة أو شخصية متجبرة أو موقف صعب. وامتدت هذه الشخصية لتطوق اهتمامات وميولاً ومجالات عدة، فقدمت الجانب الإنسانى فى (جحا العربى) والجانب الاجتماعى فى (جحا الفارسى والتركى) والسياسى فى (جحا المصرى) لتبدو فى النهاية شخصية أسطورية ترمز إلى التندر ممن يملكون على الناس أى سلطة، ويسيئون استخدامها، وتسعى إلى حث الجماهير على المقاومة، وتعبئتهم بطريقة ناعمة وبطيئة من أجل الوقوف فى وجه الجائرين، والسعى الجاد إلى التغيير. وقد فاض «الأدب الجحوى» بألوان من النقد السياسى، لا سيما أن ظهور شخصية «جحا»، كمسألة رمزية، ارتبط بحقب زمنية كان يشتد فيها الصراع بين قوميتين أو أكثر، أو التى تنهار فيها دول وتقوم أخرى على أنقاضها، حيث تشتد التناقضات فى النظم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، ويزداد الكبت والقهر والقمع، وتصبح هناك ضرورة للعمل على مواجهة هذه التناقضات وحلها، والتغلب على هذا القهر وإنهائه، ولو مؤقتاً، ومقاومة التسلط والفساد لإضعافهما إلى أدنى حد. وأخذت شخصية «جحا» ثلاثة مسالك أساسية للمواجهة الحذرة؛ الأول هو عدم الاكتراث بالظاهر من الأمور والاعتصام بنزعة صوفية تقى الفرد من الذوبان مع المقهورين، أو الاستسلام التام للتسلط. والثانى هو الاندفاع نحو المجون، بوصفه نزعة من نزعات التمرد على الواقع، أو الهرب منه بالاستعلاء عليه. أما الثالث فهو السخرية من الواقع المعيب، والأشخاص المتكبرين والمستبدين. وهذه المسالك يعاد إنتاجها مع الزمن، فى تجدد لا ينتهى، بحيث يبقى «الرمز الجحوى» ملهماً لألوان من الفكاهة والتندر والسخرية الحديثة والمعاصرة.